
Bilel Chebbi
مدخل عام
يعد التراث الثقافي من أبرز العناصر التي تحدد هوية الشعوب، فهو يعكس تاريخها العريق، معتقداتها، وفلسفاتها، وطُرُقَ حياتها عبر الأجيال. يشمل هذا التراث كل ما تركه الأجداد من آثار مادية وغير مادية، مثل المعالم المعمارية، الفنون الشعبية، الآداب، والعادات والتقاليد التي تتناقلها الأجيال. يُعتبر التراث الثقافي ذا قيمة بالغة، ليس فقط لأنه يعد جزءًا أساسيًا من تاريخ الشعوب، ولكن أيضًا لأنه يشكل جسرًا بين الماضي والحاضر، ويُساهم في تشكيل المستقبل. ومع تنامي الأزمات والصراعات في بعض مناطق العالم الإسلامي، أصبح التراث الثقافي مهددًا بشكل متزايد، مما يستدعي تدخلًا عاجلًا من مختلف الهيئات والمنظمات الدولية لحمايته والحفاظ عليه من المخاطر التي تهدده.
في ظل هذه التحديات التي يواجهها التراث الثقافي، تتبنى الإيسيسكو رؤية شاملة وطموحة لحمايته من الأزمات المتزايدة التي تتهدده. تتنوع هذه الأزمات بين الحروب والصراعات المسلحة، التغيرات المناخية، بالإضافة إلى التهديدات الناتجة عن الاتجار غير المشروع بالآثار. في هذا السياق، تسعى الإيسيسكو إلى تحقيق أهدافها عبر تعزيز التعاون الدولي بين الدول الأعضاء في المنظمة، وتطوير برامج مبتكرة تهدف إلى الحفاظ على التراث الثقافي وتوثيقه، كما تسعى إلى استخدام التكنولوجيا الحديثة في مجالات الحماية والتوثيق. لذلك، يتناول هذا المقال دور الإيسيسكو في مواجهة هذه التحديات، وكيفية تصديها للأزمات التي تعصف بالتراث الثقافي في العالم الإسلامي، إضافة إلى الآليات والبرامج التي تطبقها المنظمة في سبيل حماية هذا التراث الثمين.
التراث الثقافي في العالم الإسلامي: التحديات والتهديدات
التراث الثقافي في العالم الإسلامي يواجه اليوم تهديدات متعددة ومعقدة ناتجة عن الأزمات المتنوعة التي تعصف بعدد من الدول الإسلامية. هذه الأزمات تضع التراث الثقافي في مواجهة تحديات جمة، مما يعرض العديد من المواقع والمعالم التراثية لخطر التدمير أو التفريط في قيمتها الثقافية والتاريخية. من أبرز هذه التهديدات:
الحروب والصراعات المسلحة: شهدت العديد من الدول الإسلامية في العقود الأخيرة حروبًا وصراعات مسلحة أسفرت عن تدمير العديد من المواقع التراثية والأثرية، بعضها تعرض لتدمير شبه كامل نتيجة للهجمات العسكرية العشوائية أو العمليات الإرهابية المتعمدة. تعد هذه الحروب والصراعات من أبرز التهديدات التي تواجه التراث الثقافي، حيث يتعرض الكثير من المواقع التاريخية ذات القيمة الكبيرة مثل المساجد القديمة، القلاع، المواقع الأثرية، المتاحف، وغيرها من المعالم الثقافية للتدمير أو النهب. وقد شهدنا في السنوات الأخيرة تدميرًا مؤسفًا لعدد من هذه المواقع في بعض الدول مثل سوريا والعراق وليبيا، مما يهدد إرثًا ثقافيًا هامًا للأمة الإسلامية جمعاء.
التغيرات المناخية: التغيرات المناخية التي يشهدها العالم، بما في ذلك زيادة درجات الحرارة، الجفاف، الفيضانات، والطقس المتطرف، تمثل تهديدًا إضافيًا للتراث الثقافي في المنطقة الإسلامية. هذه التغيرات تؤثر على المواقع التراثية بطرق متعددة، منها التأثيرات المدمرة على الهياكل المعمارية القديمة، التي لا يمكنها مقاومة هذه الظروف المناخية القاسية، أو على الآثار الطبيعية التي قد تتعرض للتآكل أو التدمير بسبب التغيرات البيئية. على سبيل المثال، قد تتعرض المواقع الأثرية المبنية من مواد غير مقاومة للطقس القاسي، مثل الطين والخشب، إلى تدهور سريع تحت تأثير الرياح العاتية، الفيضانات، أو موجات الحرارة المرتفعة. التغيرات المناخية أيضًا تؤثر على المناطق التراثية التي تعتمد على البيئة الطبيعية مثل الواحات والنظم البيئية المهددة.
الاتجار غير المشروع بالآثار: يعد الاتجار غير المشروع بالآثار أحد أخطر التهديدات التي تواجه التراث الثقافي في العالم الإسلامي، إذ يُعد هذا النشاط غير القانوني تهديدًا مباشرًا للقطع الأثرية التي تمثل جزءًا من هوية الشعوب. في العديد من الحالات، أُجبرت بعض القطع الأثرية التاريخية النادرة على مغادرة البلدان الأصلية، نتيجة للنهب المستمر، مما يعرض هذه الآثار لخطر التشتت أو بيعها في أسواق غير قانونية، ما يعوق محاولات استرجاعها أو الحفاظ عليها. والسبب الرئيس في انتشار هذا النوع من الاتجار هو ضعف الرقابة في بعض البلدان وصعوبة محاربة هذا النشاط على المستوى الدولي، خصوصًا في ظل غياب التشريعات الوطنية والدولية الفاعلة التي تمنع هذا التهريب. إن هذه التجارة غير المشروعة تشكل تهديدًا كبيرًا للتراث الثقافي، إذ لا يتم الحفاظ على هذه القطع كما يجب، وتفقد سياقها التاريخي والمكاني الذي يجعلها ذات قيمة.
إستراتيجيات الإيسيسكو لحماية التراث الثقافي
تسعى الإيسيسكو من خلال رؤيتها الشاملة إلى تحقيق هدف حماية التراث الثقافي في العالم الإسلامي عبر استراتيجيات مبتكرة ومتكاملة تستند إلى التعاون الدولي، التوعية المستمرة، واستخدام التكنولوجيا الحديثة. في ضوء التحديات الكبيرة التي تواجه هذا التراث نتيجة الأزمات المتزايدة، سواء كانت حروبًا، صراعات مسلحة، تغيرات مناخية، أو الاتجار غير المشروع بالآثار، فإن الإيسيسكو تعمل على تعزيز القدرات المحلية والإقليمية والجهود الدولية في سبيل حماية هذا التراث الثمين. وفي هذا السياق، تتبنى المنظمة مجموعة من الإستراتيجيات الأساسية التي تهدف إلى وضع أسس فعّالة للحفاظ على التراث الثقافي وتنميته.
1- التعاون الدولي:
تعتبر الإيسيسكو أن التعاون الدولي هو أحد الركائز الأساسية في حماية التراث الثقافي. فهي تبذل جهدًا كبيرًا في تعزيز الشراكات مع المنظمات الدولية المختلفة مثل اليونسكو، الإنتربول، وغيرها من المؤسسات المعنية بحماية التراث الثقافي على المستوى العالمي. من خلال هذه الشراكات، يتم تبادل المعرفة والخبرات بين الدول الأعضاء، مما يساهم في تحديد سبل التصدي للتحديات المشتركة التي تواجه التراث، سواء كانت ناتجة عن الحروب والصراعات أو التغيرات المناخية أو أي تهديدات أخرى.
كما أن التعاون الدولي يساعد في توحيد الجهود وتطوير استراتيجيات مشتركة تضمن عدم تفاقم هذه التهديدات، فضلًا عن توفير الدعم اللازم للمناطق الأكثر تضررًا جراء الأزمات المختلفة.
2- التدريب وبناء القدرات:
تدرك الإيسيسكو أهمية العنصر البشري في عملية حماية التراث الثقافي، لذلك تركز بشكل كبير على بناء القدرات المحلية. من خلال تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية متخصصة، تسعى الإيسيسكو إلى تطوير مهارات الخبراء المحليين في مجالات إدارة التراث، من أجل مساعدتهم على التصدي للتهديدات التي قد تواجه المواقع التراثية. كما تهدف هذه التدريبات إلى تعزيز الوعي لدى المتخصصين في مجال التراث بكيفية التعامل مع الأزمات المختلفة مثل الحروب أو الكوارث الطبيعية، وكيفية استخدام التقنيات الحديثة في الحفاظ على التراث.
إن تطوير قدرات المتخصصين في هذا المجال يُعد من الخطوات الهامة لضمان استدامة الحماية وحفظ المواقع التراثية في الظروف الاستثنائية.
3- استخدام التكنولوجيا في الحماية:
تلعب التكنولوجيا دورًا بالغ الأهمية في الحفاظ على التراث الثقافي، ولذا تستثمر الإيسيسكو في تطوير أدوات رقمية متقدمة لتوثيق وحفظ المواقع التراثية. من بين التقنيات التي تُستخدم تقنيات التصوير ثلاثي الأبعاد، التي تتيح توثيق المعالم التاريخية والمعمارية بدقة عالية، مما يسهل عملية الحفاظ عليها، بل واستعادتها في حال تعرضها للتدمير.
كما تعمل الإيسيسكو على استغلال تقنيات الذكاء الاصطناعي AI لرصد تهديدات التراث في الوقت الفعلي، وهو ما يساهم في كشف أي تهديدات أو عمليات سرقة للآثار وتقديم حلول سريعة لمواجهتها. كما تساعد هذه الأدوات في مراقبة المواقع التاريخية المعرضة للتهديد بسبب التغيرات المناخية أو الكوارث الطبيعية.
4- حماية التراث الثقافي المنقول:
واحدة من التهديدات الكبرى التي تواجه التراث الثقافي هي الاتجار غير المشروع بالآثار. لذا، تسعى الإيسيسكو إلى حماية التراث الثقافي المنقول من خلال عدة آليات، تبدأ بإصدار دليل تدريبي للعاملين في هذا المجال، لتمكينهم من التعامل مع هذه القضية بشكل احترافي. يركز هذا الدليل على كيفية مواجهة التحديات التي تطرأ بسبب الاتجار غير المشروع بالآثار، ويساعد في تعزيز التشريعات الوطنية لمنع هذه الأنشطة المدمرة.
إضافة إلى ذلك، تشجع الإيسيسكو الدول الأعضاء على تنفيذ مشاريع تشريعية أكثر صرامة للحفاظ على الآثار التاريخية من السرقة، وتعمل على دعم سياسات مراقبة صارمة تحد من تهريب القطع الأثرية إلى الأسواق غير القانونية.
الأنشطة والمبادرات:
إلى جانب الاستراتيجيات الأساسية التي تنتهجها، تقوم الإيسيسكو بتنظيم العديد من الأنشطة التي تسهم في تعزيز حماية التراث الثقافي في العالم الإسلامي. من أبرز هذه الأنشطة:
دراسات وحملات توعية: أصدرت الإيسيسكو عددًا من الدراسات التي تهدف إلى تحديد المواقع التراثية المهددة جراء الأزمات وتقديم حلول واقعية لحمايتها. كما نظمت حملات توعية واسعة النطاق عبر وسائل الإعلام المختلفة، بهدف رفع الوعي لدى الشعوب حول أهمية التراث الثقافي وأسباب الحفاظ عليه. تسهم هذه الحملات في تحفيز المجتمعات المحلية على المشاركة في جهود الحماية.
ورش العمل والندوات: تعمل الإيسيسكو على تنظيم ورش عمل وندوات دولية وإقليمية تتناول سُبل حماية التراث الثقافي في ظل الأزمات العالمية. على سبيل المثال، نظمت الإيسيسكو مؤخرًا ورشة عمل دولية حول "دعم سحب المواقع التاريخية في إفريقيا من قائمة التراث العالمي المعرض للخطر"، وذلك بالتعاون مع صندوق التراث العالمي الإفريقي و مركز التراث العالمي في اليونسكو. تهدف هذه الورش إلى تقديم حلول عملية للمشاكل التي تواجه المواقع التراثية في مناطق الأزمات.
حماية التراث في إطار الأزمات:
تتبنى الإيسيسكو رؤية شاملة لحماية التراث الثقافي الذي تعرض لتهديدات مباشرة بسبب الأزمات مثل الحروب أو التغيرات المناخية. على سبيل المثال، عملت الإيسيسكو على تقييم الآثار السلبية للحروب على المواقع التراثية في سوريا و العراق، وتم اتخاذ إجراءات عاجلة بالتعاون مع الحكومات المحلية والجهات الدولية المعنية لترميم هذه المواقع وتوثيق الأضرار.
وفيما يتعلق بالتغيرات المناخية، نفذت الإيسيسكو العديد من الدراسات وورش العمل التي تهدف إلى تعزيز مرونة المواقع التراثية في مواجهة تحديات مثل الفيضانات، الجفاف، والتآكل. هذه الورش تساعد على تطوير تقنيات جديدة تهدف إلى حماية المواقع التاريخية من هذه الظواهر المتزايدة.
التوجهات المستقبلية للإيسيسكو:
إن الإيسيسكو تواصل العمل على تطوير وتوسيع برامجها في مجال حماية التراث الثقافي من خلال استراتيجيات متعددة، ومنها:
تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء: تسعى الإيسيسكو إلى زيادة التنسيق بين الدول الأعضاء لتطبيق استراتيجيات فعّالة في مجال حماية التراث، سواء من خلال التعاون الثنائي أو في إطار المبادرات الإقليمية والدولية.
التوسع في استخدام التكنولوجيا: تهدف الإيسيسكو إلى تطبيق حلول مبتكرة مثل تقنيات المسح الرقمي، واستخدام الأدوات الذكية لمراقبة وحماية المواقع التراثية في الدول الأعضاء، بهدف تعزيز كفاءة الحماية والتوثيق.
التطوير المستدام للاقتصاد الثقافي: تضع الإيسيسكو خططًا طموحة لاستخدام التراث الثقافي كأداة حيوية لتحقيق التنمية المستدامة، بما في ذلك تعزيز السياحة الثقافية التي تساهم في تحفيز الاقتصاد الوطني للمجتمعات المحلية، بالإضافة إلى توظيفه في سياق الاقتصاد الثقافي على المدى الطويل.
الخاتمة
في ظل التحديات الكبيرة التي يواجهها التراث الثقافي في العالم الإسلامي نتيجة الأزمات المتعددة، تبرز الإيسيسكو كمنظمة رائدة تسعى لحماية هذا التراث الثمين من خلال استراتيجيات شاملة ومتجددة. من خلال التعاون الدولي، وتطوير قدرات الخبراء المحليين، واستخدام التكنولوجيا الحديثة، تعمل الإيسيسكو على تحصين التراث الثقافي من الحروب والصراعات المسلحة، التغيرات المناخية، والاتجار غير المشروع بالآثار. كما تواصل المنظمة تنفيذ مشاريع مبتكرة تساهم في رفع الوعي وتعزيز السياسات التشريعية لحماية التراث.
إن جهود الإيسيسكو في تعزيز التنسيق بين الدول الأعضاء وتطبيق حلول تكنولوجية حديثة تمثل خطوة هامة نحو حماية هذا التراث الذي يعد ركيزة أساسية للهوية الثقافية والتنمية الاقتصادية. ومن خلال هذه البرامج والمبادرات المستمرة، تؤكد الإيسيسكو التزامها العميق بالحفاظ على التراث الثقافي في العالم الإسلامي كأداة لتنمية مستدامة وتحقيق الازدهار الثقافي والاقتصادي للمجتمعات.