أ. د. فـــــــــــــــــــــــوزي محـــــــفوظ
جامعة منوبة - تونس
المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون بيت الحكمة
كرسي ابن خلدون للثقافة والتراث - الإيسيسكو
نعرض في هذه الورقة نماذج من الكتابات التاريخية الدارجة في العصر الوسيط انتقيناها من المصادر العربية القديمة دون أن نتدخل فيها كثيرا ودون أن نطنب في تحليلها لاعتقادنا أنها أحسن من يعبر عن الثقافة العربية الإسلامية في العصر الوسيط، وهي مقتطفات تتعلق كلها بتيارين تجاذبا الثقافة السائدة وتقاسماها، وكانا على طرفي نقيض وهما التيار الغيبي -الأسطوري (ا) والتيار العقلي- الواقعي (اا).
- التيار الغيبي-الأسطوري. يعتمد أساسا على الخرافة، كان كثير الانتشار والتداول في مختلف أرجاء الدولة العربية الإسلامية، يعبر عن ثقافة عصر كان يؤمن ويسلم بالخوارق في منتهى غرابتها، دون إعمال الرأي فيها، وهو في اعتقادنا يعبر عن المستوى الذهني والثقافي لا فقط للنخبة المتعلمة، ولكن أيضا عن الثقافة العامة السائدة والمنتشرة في كل الأوساط. وقد اجتهد عدد كبير من المفكرين والفقهاء ورجال الدين للتصدي إلى هذا النوع من الأدبيات الغريبة التي تنضوي تحت عنوان "القصة"، فكان القصاصون في نظر معارضيهم "يفسدون الدّين" يمارسون ضربا من ضروب "التحيل" أو "الدّلس" ، فألف ابن الجوزي (ت 1172) في شأنهم كتاب "القصاص والمذكرين" وألف الحافظ زين الدين أبو الفضل عبد الرحيم (1403) في نفس الغرض "الباعث على الخلاص من حوادث القصاص" وألف السيوطي (ت 1505) كذلك كتابا عنوانه "تحذير الخواص من أكاذيب القصاص". وقد أورد هذا الأخير حادثة وقعت له مع بعض القصاصين تبين مدى تمكنهم من الرأي العام واستمالته، بشكل جعلهم يتمتعون بحماية "العوام" و بصيت يفوق بكثير صيت المفكرين ورجال الدين "الموضوعيين" قال السّيوطي :
"استفتيت في هذه الأيام في رجل من القصاص يورد في مجلس ميعاده أحاديث يعزوها إلى النبي صلي الله عليه وسلم، ولا أصل لها عنه...فأفتيت أن هذا لا أصل له وهو باطل لا تحل روايته ولا ذكره وخصوصا بين العوام والسوقة والنساء، وأنه يجب على هذا الرجل أن يصحح الأحاديث التي يرويها في مجلسه على مشايخ الحديث...فنقل إليه ذلك فاستشاط غضبا فقام وقعد وأرعد وأزبد. وقال : "مثلي يصحح الأحاديث على المشايخ، مثلي يقال له في حديث رواه إنه باطل؟ أنا أصحح على الناس. أنا أعلم أهل الأرض بالحديث وغيره...ثم أغرى بي العوام، فقامت علي الغوغاء وتناولوني بألسنتهم وتوعدوني بالقتل والرجم[1]".
- التيار الثاني يمكن أن ننعته ب"العقلي" وهو وإن كان أقليا إلا أنه يعبر عن ضمير يقض وعقل ناقد للمسلمات وعن منحى جدي في مصارعة "الخرافة" و"الشعوذة". ولعل أحسن من مثل هذا التيار عبد الرحمان بن خلدون، ابن المدرسة الزيتونية الواقعية والذي -وإن كان لا يشك في إيمانه الصادق- إلا أنه كان يرى أن الإيمان بالخوارق ليس من حسن المعتقد بل هو إفساد للدين وزيغ عن مقاصده المثلى.
ا) التيار الأسطوري- الغيبي
ليس من الممكن الإحاطة بكل ما كتب من أساطير وأراجيف يعسر على الفكر العقلاني التجريبي أن يؤمن أو يصدق بها، ولن نتناول في هذه الورقة الأساطير التي قيلت في القيروان وقرطاجنة وقد درسناها في أعمال سابقة، ولذلك سوف نكتفي ببعض النماذج التي نستقيها من "تاريخ" عبد الملك بن حبيب ( 179/ 238هـ 796/853 أو 854م) وهو أندلسيي يعد من أقدم مؤرخي الأندلس، وُلِد قرب غرناطة، وعاش في ألبيرة وقرطبة وفيهما درس، ثم رحل إلى المشرق، وخاصة إلى المدينة المنورة؛ حيث درس الفقه على مذهب مالك بن أنس وأصبح من كبار أنصاره، وكان يعد منأكبر دعاة المالكية بها. ونعت عبد الملك بأنه "بحر من العلم بالشعر والأنساب والتاريخ والفقه والمعاجم والطب"، وقد أدرك في الأندلس شهرة واسعة ولقَّبه الناس "بعالم الأندلس" وجعلوه نظيراً لسُحْنون بن سعيد إمام المالكيين في المغرب. اشتهر خاصة بكتابه الموسوم "بالواضحة" و "بكتاب التاريخ".
وهذا الكتاب الأخير تطغى عليه الأساطير العجيبة والغريبة لاسيما في الفصل الأول الذي خصصه للرسل والأنبياء الدين بعثوا قبل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وفيه تفسيرات عديدة للقصص القرآني، يوردها على أنها حقائق مسلمة؛ بل أن العجائب التي يعج بها الكتاب نجدها حتى في الفصول التي تتعلق بالحقبات التاريخية كعصر الرسول محمد وفتح الأندلس. وسوف نقتصر هنا على النزر القليل مما ورد في هذا الكتاب :
فعن العقل وخلقه كتب :
" العقل خلقه الله عز وجل من عمود كلمته وجعل في الدماغ مسكنه، والدماغ خلقه الله من دخان يكون في وسط الجنة من حجاب الثور الأحمر (مفهوم عبراني وهو ثور يقدم للكهنة) الذي يلي العرش وفي الأذنين مسكنه وخلق البصر من ماء النجم الثاقب (المضيء) وفي محجر العين مسكنه وخلق الدمع من حجاب الماء الأبيض[2]".
وعن سفينة نوح وما دار فيها قال :
'"وكان نوح عليه السلام قد عهد إلى كل من كان في السفينة ألا يركب ذكر أنثى، فعصى الكلب فوثب على كلبة فعوقب بالعقد (أي الربط)، فمن ذلك اليوم توارثت الكلاب العقد. ثم إن الفويسقة (الفأرة) تعدت على طعام أهل السفينة ومتاعهم فشكوا ذلك إلى نوح، فأمره الله أن يجر يده على وجه الأسد ففعل، فعطس الأسد فخرج من منخره هر، فمن ذلك خلق الهر ولم يكن من جملة الخليقة التي أدخل نوح في السفينة. وإن أهل السفينة شكوا إلى نوح كثرة الزبول والأوساخ فدعا نوح ربه فأمره أم يمسح يده على وجه الفيل فخرج من منخره خنزيران ذكر وأنثى فأقبلت الهرة تأكل الفواسق وأقبلت الخنزيرة تأكل الأوساخ حتى تنقت السفينة"[3].
وعن الآخرة كتب :
"وقال رسول الله : "اختصمت الجنة والنار ففخرت النار على الجنة وقالت : "لي الملوك والأغنياء والجبابرة وأشراف الناس ولك الضعفاء والفقراء والمساكين والمتواضعون". فقال الله تعالى للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أطاعني من خلقي وقال للنار أنت عذابي أعذب بك من اتبع هواه وعصاني... قال فكلام أهل الجنة في الجنة بالعربية وكلام أهل النار في النار بالفارسية[4]".
وجاء في قصر سليمان :
"قال عكرمة وكان لسليمان قصر أبيض من قوارير زجاج عملته له الشياطين طوله في السماء عشرة آلاف ذراع وعرضه الف ذراع وله الف ركن مزينة بألوان الزينة كلها في رأسه علم أخضر يضيء بالليل كالنار، أسفله أشد من الحديد وأعلاه رقيق ترى من الشمس والقمر والنجوم ...[5]
أما عن معجزات الرسول محمد فقد كتب:
"ثم دخلت سنة تسع للهجرة ففيها غزا رسول الله تبوك، فعطش الناس والمسلمون حتى كادوا يهلكوا، وكان مع رجل إدواة فيها شيء من ماء فأمر رسول الله به، فصبه في إناء فمضمض منه ثم رده في إنائه ووضع فيه يده. قال أنس: فلقد رأيت الماء ينبع من بين اصابعه حتى فاض وشرب العسكر وسقوا دوابهم وهم ثلاثون ألفا، الإبل إثنا عشر ألف والخيل عشرة آلاف والماء يسيل على وجه الأرض[6]"
وفي فتح طليطلة كتب :
"وكان إلى جانب البيت الذي وجد فيه التيجان بيت آخر عليه أربعة وعشرون قفلا، فكلما ولي ملك ضرب عليه قفلا كما فعل ذلك من قبله حتى كانت ولاية لذريق الذي افتتحت الأندلس في دولته. فقال لذريق قبل فتح الأندلس بأيام يسيرة : والله لا أموت بغم هذا البيت، ولا بد من أن أفتحه حتى أعرف ما داخله، فاجتمعت إليه النصرانية والشمامسة والأساقفة وقالوا له ما تريد بفتح هذا البيت؟ أنظر ما ظننت أن فيه وخطر على قلبك فخذه منا. ولا تحدث علينا حدثا لم يحدثه أحد قبلك ممن كان من الملوك، فإنهم كانوا أهل معرفة وعلم بما صنعوا. فأبى إلا فتحه للقدر والمقدر، فوجد فيه تابوتا من خشب ووجد فيه تصاوير العرب وشكلهم معممين معهم القسي العربية وقد تقلدوا السيوف ووجدوا في البيت كتابا فيه : إذا فتح هذا البيت ودخل فيه دخل هؤلاء الذين صفتهم ونعتهم كذا هذه البلاد فملكوها وغلبوا عليها" فكان دخول المسلمين عليهم في عامهم ذلك[7]".
و نختم ماء جاء عند ابن حبيب بما سجله حول قوم عاد وهم العمالقة والتسليم بوجودهم قال : "أن عاد هم أول قوم بعد نوح" وفسر الآية "زادكم في الخلق بصطة" الأعراف 69،
" أن لهم أجساما قوية وقال أنه :" كان فيهم عشرون رجلا جبارين عظيم خلقهم، كان طول أحدهم ثلاثة أميال في السماء، وكان منهم عاد بن عاد وإرم بن سام بن نوح، عاش ثلاثة آلاف سنة، كان يتغذى كل يوم ببقرة ويتعشى بأخرى، وكان يأكل فيما بين ذلك بكرة من الإبل (الصغير)، وكان إذا رمى لم تربض قائمة ولم يقم رابضة، وكان طول هؤلاء من السبعين ذراعا إلى المائة وإنما كان يقال لهم العماليق، وكانوا يسكنون مدينة بشرقي المقدس"... وقال أن "عاد الأولى هم أول من تكلم بالعربية".
والاعتقاد في وجود العمالقة نجده مثلا عند الجغرافي الزهري عندما كتب في القرن الثاني عشر : "وبمقربة من مدينة تونس، المدينة المعلقة (قرطاج) وهي خربة موسومة بالقدم لها بنيان عجيب يدل على أنها من بنيان قوم ليسوا على قدرنا ولا على مثلنا بل هم أعظم خلقة وأشد قوة...[8]".
وقد تناول الكاتب المصري المقريزي في فصل طويل هؤلاء العمالقة وتحدث عن مآثرهم بمصر والشام وبلاد البلغار وكذلك بقرطاجنة، ويبدو المقريزي مصدقا مدافعا عن فكرة وجود هؤلاء العملاقة. وينتقد من يشكك في جودهم. فقال عند حديثه عن أساطين الإسكندرية :
" ﻭﻗﺪ ﺯﻋﻢ ﻗﻮﻡ ﺃنها ﳑﺎ ﻋﻤﻠﻪ ﺍﳉﻦ ﻟﺴﻠﻴﻤﺎﻥ ﺑﻦ ﺩﺍﻭﺩ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﻛﻤﺎ ﻫﻲ ﻋﺎﺩتهم ﰲ ﻧﺴﺒﺔ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﻌﻈﻤﻮﻥ ﻋﻤﻠﻪ ﺇﱃ ﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﺻﻨﻴﻊ ﺍﳉﻦ، ﻭﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ، ﺑﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﳑﺎ ﻋﻤﻠﻪ ﺍﻟﻘﺪﻣﺎﺀ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﻣﺼﺮ". ثم يضيف مدافعا عن القول بعظمة بعض أمم الأقدمين: "ﻭﻛﺄﱐ ﲟﻦ ﻗﻞ ﻋﻠﻤﻪ ﻳﻨﻜﺮ ﻋﻠّﻲ ﺇﻳﺮﺍﺩ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﺼﻞ، ﻭﻳﺮﺍﻩ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ ﺍﶈﺎﻝ، ﻭﳑﺎ ﻭﺿﻌﻪ ﺍﻟﻘﺼﺎﺹ، ﻭﳚﺰﻡ ﺑﻜﺬﺑﻪ، ﻓﻼ ﻳﻮﺣﺸﻨﻚ ﺣﻜﺎﻳﱵ[9]".
وإيمان المقريزي بعظمة بعض الشعوب هو الذي دفع به لإيراد فصل مطول عن هذا الصنف من الشعوب نقتطف منه قصة ملك مصر الذي :
"ﺩﺧﻞ ﺍﻹﺳﻜﻨﺪﺭﻳﺔ، ﻓﺄﻋﺠﺒﻪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺼﺮ، ﻭﺃﺭﺍﺩ ﺃﻥ ﻳﺒﲏ ﻣﺜﻠﻪ، ﻓﺠﻤﻊ ﺍﻟﺼﻨﺎﻉ ﻭﺍﳌﻬﻨﺪﺳﲔ ﻟﻴﻘﻴﻤﻮﺍ ﻟﻪ ﻗﺼﺮﺍﹰ ﻋﻈﻴﻤﺎﹰ ﻋﻠﻰ هيئته، ﻓﻤﺎ ﻣﻨﻬﻢ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺍﻋﺘﺮﻑ ﺑﻌﺠﺰﻩ ﻋﻦ ﻣﺜﻠﻪ، ﺇﻻ ﺷﻴﺨﺎ ﻣﻨﻬﻢ، ﻓﺈﻧﻪ ﺍﻟﺘﺰﻡ ﺃﻥ ﻳﺼﻨﻊ ﻣﺜﻠﻪ، ﻓﺴﺮ ﺍﳌﻠﻚ ﺫﻟﻚ، ﻭﺃﺫﻥ ﻟﻪ ﰲ ﻃﻠﺐ ﻣﺎﳛﺘﺎﺝ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺍﳌﺆﻥ ﻭﺍﻵﻻﺕ ﻭﺍﻟﺮﺟﺎﻝ، ﻓﻘﺎﻝﺍﺋﺘﻮﱐ ﺑﺜﻮﺭﻳﻦ ﻣﻄﻴﻘﲔ ﻭﻋﺠﻠﺔ ﻛﺒﲑﺓ، ﻓﻠﻠﺤﺎﻝ ﺃﰐﺑﺬﻟﻚ ﻓﻤﻀﻰ ﺇﱃ ﺍﳌﻘﺎﺑﺮ ﺍﻟﻘﺪﳝﺔ، ﻭﺣﻔﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﻗﱪﺍ ﺃﺧﺮﺝ ﻣﻨﻪ ﲨﺠﻤﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ، ﺭﻓﻌﻬﺎ ﻋدﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺟﺎﻝ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺠﻠﺔ، ﻓﻤﺎ ﺟﺮﻫﺎ ﺍﻟﺜﻮﺭﺍﻥ ﻣﻊ قوتهما ﺇﻻ ﺑﻌﺪ ﺟﻬﺪ ﻭﻋﻨﺎﺀ، ﻓﻠﻤﺎ ﻭﻗف بها ﺑﲔ ﻳﺪﻱ ﺍﳌﻠﻚ، ﻗﺎﻝ :ﺃﺻﻠﺢ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺇﻥ ﺃﺗﻴﺘﲏ ﺑﻘﻮﻡ ﺭﺅﻭﺳﻬﻢ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺃﺱ ﻋﻤﻠﺖ ﻟﻚ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺼﺮ؟ ﻓﺘﻴﻘﻦ ﺍﳌﻠﻚ ﻋﻨﺪ ﺫﻟﻚ ﻋﺠﺰ ﺃﻫﻞ ﺯﻣﺎﻧﻪ ﻋﻦ ﺇﻗﺎﻣﺔ ﻣﺜﻞ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻘﺼﺮ[10]".
*****
لا يخفى على المؤرخ والأثري الجانب التاريخي في الأسطورة التي مهما يكن من أمر كان لها وظيفية في المنظومة الفكرية السائدة. فهي آلية من الآليات التي تعتمد في تفسير الأشياء التي لم يجد لها القدماء تفسيرا مقنعا. ويمكن إجمال الغايات في ما يلي :
- العبرة من الماضي،
- العجز عن تفسير بعض الظواهر الطبيعية مثل مسألة العقل و وجود الحيوانات المكروهة مثل الفأر والخنزير أو وضعية الكلب الذي يبقى في غالب الأحيان موثوقا،
- التعبير عن موقف سياسي أو صراع اجتماعي كالقول بأن "جهنم سوف تكون مستقر الحكام والجبابرة والأغنياء وأن الجنة "للضعفاء والفقراء والمساكين والمتواضعين". أو أن العوام والسوقة والنساء أكثر تقبلا للخرافة، أو القول بأن "كلام أهل الجنة في الجنة بالعربية وكلام أهل النار في النار بالفارسية" وهذا الموقف الأخير يندرج ضمن "الشعوبية" التي عرفت بقولها بأفضلية العنصر العربي على الفارسي،
- البحث عن تعظيم بعض الشخصيات التاريخية مثل الرسول محمد أو سليمان، وتمكنهم من إتيان المعجزات،
- الإيمان بالقدر المكتوب : (فتح طليطلة)،
- تفسير الأعمال البشرية المميزة مثل بناء الإهرامات وغيرها مما تركه القدماء والوقوف على سبب زوالها. فالمباني الكبيرة الشاهقة تصبح في هذا المنظور من عمل العمالقة، و زوالها هو عقاب إلهي أو من جور الحاكم.ذكر ابن حبيب :
: "أوحى الله عز وجل إلى موسى بن عمران : ما كنت لأعذب الرعية وإن كانت ظلمة مسيئة، إذا كانت الأئمة هادية مهدية. ولكني يا موسى أعذب الرعية وإن كانت هادية مهدية إذا كانت الأئمة ظالمة مسيئة. ولا يأتي حساب الرعية إذا كانت هادية مهدية على سيئات الأئمة. ولذلك قيل صلاح الوالي خير من خصب الزمان، ولذلك كان الملك فيما مضى يرى صحة ملكه أحب إليه من صحة جسده[11]".
والواقع أن فكرة العقاب الإلهي مستوحاة من القرآن الكريم وقد جاءت في العديد من السور وخاصة في سورة الإسراء - 16 "وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا تَدْمِيرًا"
إن اللجوء إلى الخارق والغيبي يخرج الكتابة والممارسة من بوتقة "المسؤولية" العلمية أو الأخلاقية ليدرجها ضمن الفعل الشعبي وهي على كل حال قصص تستهوي العامة ورجال الدولة. وحتى مقاومتها لم تتم لأسباب عقلية محضة بل في كثير من الأحيان من باب التصدي للضرر المادي الذي يلحق بأعوان الدولة ورجالاتها. وهي وسيلة ذكية للتخلص من التاريخ الدقيق المضبوط الذي يفرض على الراوي التقيد بالزمان والمكان، وبهذا لا يكون هناك خطأ أو مأخذ يمكن أن يلام عليه.
والفكر الغيبي في خدمة بعض المآرب الاقتصادية ويستعمل في تبرير أنشطة وأعمال يعسر تصديق نتائجها كالاشتغال بالتنجيم والكيمياء والبحث عن الكنوز. فهذه الممارسات تخفي كما تفطن إلى ذلك ابن خلدون رغبة في التواكل والحصول على "المعاش" و"الكسب" دون بذل جهد في العمل. ومن المؤسف حقا أن هذا المنحى لا يزال يرى في الكثير من المجتمعات العربية.
اا) المنهج العقلي
الرفض الشديد للفكر الغيبي الأسطوري نجده منذ العصر العباسي لدى أهل السنة ومثال ذلك ابن قتيبة (ت. 276/889) في كتابه "تأويل مختلف الحديث" ففي هذا المصنف الذي رصد فيه الشوائب التي يمكن أن تلحق بالحديث قال ابن قتيبة :
" القصاص على قديم الزمان، فإنهم يُميلون وجوه العوام إليهم، ويَستدِرُّون ما عندهم بالمناكير والغريب والأكاذيب من الأحاديث، ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيبًا خارجًا عن فِطَر العقول، أو كان رقيقًا يُحزن القلوب ويَستغزِر العيون، فإذا ذكر الجنة، قال: فيها الحوراء من مسك أو زعفران، وعَجِيزتها (مؤخرتها) ميل في ميل، ويُبوِّئ الله تعالى وليَّه قصرًا من لؤلؤة بيضاء، فيه سبعون ألف مقصورة، في كل مقصورة سبعون ألف قُبة، في كل قبة سبعون ألف فراش، على كل فراش سبعون ألف كذا، فلا يزال في سبعين ألف كذا وسبعين ألفًا، كأنه يرى أنه لا يجوز أن يكون العدد فوق السبعين ولا دونها، ويقول: لأصغر من في الجنة منزلةً عند الله مَن يعطيه الله تعالى مثل الدنيا كذا وكذا ضِعفًا، وكلما كان من هذا أكثر، كان العجب أكثر، والقعود عنده أطول، والأيدي بالعطاء إليه أسرع، والله - تبارك وتعالى - يخبرنا في كتابه بما في جنته بما فيه مَقنع عن أخبار القصاص وسائر الخلق، حين وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض...، فكيف يكون عرضها السموات والأرض، ويعطي الله تعالى أقل مَن فيها منزلةً فيها مثل الدنيا أضعافًا؟
ثم يذكر آدم - عليه السلام - ويصفه، فيقول: كان رأسه يبلغ السحاب، أو السماء ويحاكها، فاعتراه لذلك الصلع، ولما هبط إلى الأرض، بكى على الجنة حتى بلغت دموعه البحر، وجرت فيها السفن، ويذكر داود - عليه السلام - فيقول: سجد لله تعالى أربعين ليلةً، وبكى حتى نبت العشب بدموع عينيه، ثم زفر زفرةً هاج لها ذلك النبات، ويذكر عصا موسى - عليه السلام - فيقول: كان نابها كنخلة سحوق، وعينها كالبرق الخاطف، وعرفها كذا..[12]".
والنظرة العقلية والتشكيك في هذه الخوارق ولاسيما في وجود العمالقة نجده أيضا لدى الشيعة منذ القرن العاشر الميلادي وقد دون القاضي النّعمان ( ت 363/974) وهو قاضي قضاة الدولة الفاطمية، كانت له مكانة مميزة في صلب الدولة، نصا عن بناء حنايا عين أيوب، أي حنايا شريشيرة، الواقعة غربي القيروان على بعد 30 كلم في منطقة تعرف تاريخيا بوادي الموتى نلمس فيه بكل جلاء موقفا يؤمن بالعمل والإنسان والتحدي، موقف معاد بشكل جلي للفكر الخرافي الذي ينعت متبعيه بأصحاب العقول الفاسدة :
"(قال) واعتزم المعزّ لدين الله (صلع) على إجراء نهر عين أيّوب إلى المنصورية، وقد كان القائم (عم) ابتدأ العمل فيه على أن يجرّيه إلى مدينة القيروان، ثم جاءت الفتنة فقطعت ذلك، وهمّ المنصور بذلك فهوّل عليه أمره. ثم اعتزم المعزّ (عم) على إجرائه. وبدأ بالعمل فيه أوّل يوم من المحرّم سنة ثمان وأربعين وثلاث مائة وذلك يوم الأحد. وقيس ما بين المكان الذي بلغ به القائم إلى المنصورية فوجد طوله ثلاثة وسبعين ألف ذراع. فأمر بأن يجري قناة تبنى بالجير تأخذ في أسناد جبال وتمرّ على أودية وأوطئة يحتاج فيها إلى آزاج يجري الماء من فوقها.
واستهال ذلك بعض من حضر. فقال المعزّ (عم) : قد هُوّل مثل هذا التهويل على القائم (عم)، وقيل له : والله لو جُعلَت في ساقية من زجاج ما جرت. وقيل للمنصور (عم) : يحتاج أن ينفق فوق مائة ألف دينار، ثم الله أعلم هل يصحّ جريها أو لا. وكان ذلك سبب تركها. ولا والله لا أتركها ولو أنفقت فيها أضعاف ما قيل. والله لو علمت أنّ الزجّاجين يستطيعون لنا بيتا من الزجاج لأمرت بعملها ولأجريتها فيها، ليعلم من يهوّل ذلك أنّه لا يهولني ولا أستعظمه وإنّما تهيّأ ما تهيّأ لمن تقدّم من ملوك الأرض من مثل هذه الأعمال، بالعزم عليها والحزم فيها. ثمّ ذكر ماء جبل زغوان الذي كان يجري في قناة قرطاجنّة فقال : أما والله لو كان لنا هناك ما نستقي به لأصلحت تلك القناة ولأجريته فيها. وإن كان الناس يتعاظمون أمرها ويرون أنّ أحدا لا يقدر على ذلك، فليت شعري كيف جاز ذلك عندهم لمن تقدّم ولا يجوز لمن تأخّر ! اللهمّ إلاّ أن يصحّ في عقولهم الفاسدة أنّهم كانوا في القوّة وعظم الأجسام في خلاف ما عليه اليوم الأنام. وكما زعموا أنّ المرأة كانت تأتي بأعظم صخرة، يرونها تحملها على رأسها ومغزلها في يدها. فإن كان بمثل هذا من المحال تصوّب هذا عندهم ... [13]"،
على أن أبلغ من عبر عن المنهج العقلي الداحض للفكر الأسطوري هو عبد الرحمان بن خلدون الذي لا يدع أي فرصة تمر للتعبير عن رفضه للفكر الغيبي الذي يؤمن بالخوارق. وسوف نأخذ هنا ثلاثة مواقف نرى أنهما في غاية من الوضوح والتقدمية والإيمان بالعلم مع الحفاظ على قدر عال من الإيمان. وهي مواقف تتعلق بالعمالقة و الكيمياء والتفتيش عن الكنوز
1 ففي دحض وجود العمالقة قال :
"وربما يتوهم كثير من الناس إذا نظر إلى آثار الأقدمين ومصانعهم العظيمة، مثل إيوان كسرى وأهرام مصر وحنايا المعلقة وشرشال بالمغرب، إنما كانت بقدرتهم متفرقين أو مجتمعين. فيتخيل لهم أجساما تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير في طولها وقدرها لتناسب بينها وبين القدر التّي صدرت تلك المباني عنها...وكثير من المغفلين في البلاد يعاين في شأن البناء واستعمال الحيل في نقل الأجرام عند أهل الدولة المعتنين بذلك من العجم ما يشهد له بما قلناه. وأكثر آثار الأقدميين لهذا العهد تسميها العامة عادية نسبة إلى قوم عاد لتوهمهم أن مباني عاد ومصانعم إنما عظمت لعظم أجسامهم وتضاعف قدرهم، وليس كذلك[14]".
2) في خصوص علم الكيمياء.
صناعة الكيمياء صناعة قديمة وهي تتلخص في محاولة استخراج الذهب والفضة من المعادن الأقل نبلا وقد كانت صنعة رائجة في المجتمعات العربية والغربية وألف فيها الكثير وكانت هذه الصناعة محل ريبة من الحكام لاتصالها بتزييف العملة وضرب مصداقية المعادن. وعرف ابن النديم الكيمياء في المقالة العاشرة بأنها : " صنعة الذهب والفضة من غير معادنها" وتناول ابن خلدون الكيمياء في مناسبتين في الفصل الثالث والعشرين أين عرف علم الكيمياء تعريفا سريعا جاء فيه :
"وهو علم ينظر في المادة التي يتم بها كون (استخراج) الذهب والفضة بالصناعة ويشرح العمل الذي يوصل إلي ذلك فيتصفحون المكونات كلها بعد معرفة أمزجتها وقواها لعلهم يعثرون على المادة المستعدة لذلك حتى من العضلات الحيوانية كالعظام والريش والبيض والعذرات (الشعر) فضلا عن المعادن، ثم يشرح الأعمال التي تخرج بها تلك المادة من القوة إلى الفعل مثل حل الأجسام إلى أجزائها الطبيعية بالتصعيد والتقطير وجمد الذائب منها بالتكليس و إمهاء الصلب بالقهر والصلابة وأمثال ذلك. وفي زعمهم أنه يخرج بهذه الصناعات كلهم جسم طبيعي يسمونه "الإكسير" وأنه يلقى منه على الجسم المعدني المستعد لقبول صورة الذهب أو الفضة بالاستعداد القريب من الفعل مثل الرصاص والقصدير والنحاس بعد أن يحمي بالنار فيعود ذهبا إبريزا ويكنون عن ذلك "الإكسير". لذا ألغزوا في آصطلاحاتهم بالروح وعن الجسم الذي يلقى عليه بالجسد فشرح هذه الاصطلاحات وصورة هذا العمل الصناعي الذي يقلب هذه الأجسام المستعدة إلى صورة الذهب والفضة هو علم الكيمياء[15].
ثم أعاد الحديث عن الكيمياء في الفصل السادس والعشرين الذي وضع له عنوانا يعبر عن موقفه من هذه الصناعة : "في إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها[16]".
"اعلم أن كثيرا من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع عن انتحال هذه الصنائع ويرون أنها أحد مذاهب المعاش و وجوهه، وأن اقتناء المال منها أيسر و أسهل على مبتغيه فيرتكبون فيها من المتاعب والمشاق ومعاناة الصعاب و عسف الحكام وخسارة الاموال في النفقات زيادة على النيل من عرضه والعطب آخرا إذا ظهر على خيبة. وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وإنما أطمعهم في ذلك رؤية أن المعادن تستحيل وينقلب بعضها إلى بعض للمادة المشتركة فيحاولون بالعلاج صيرورة الفضة ذهبا والنحاس والقصدير فضة ويحسبون أنها من ممكنات عالم الطبيعة ولهم في علاج ذلك طرق مختلفة لاختلاف مذاهبهم في التدبير وصورته وفي المادة الموضوعة عندهم للعلاج المسماة عندهم بالحجر المكرم هل هي العذرة أو الدم أو الشعراء أو البيض أو كذا مما سوى ذلك وجملة التدبير عندهم بعد تعين المادة أن تمهى بالفهر على حجر صلد أملس وتسقى أثناء إمهائها بالماء وبعد أن يضاف إليها من العقاقير والأدوية ما يناسب القصد منها ويؤثر في انقلابها إلى المعدن المطلوب ثم تجفف بالشمس من بعد السقي أو تطبخ بالنار أو تصعد أو تكلس لاستخراج مائها أو ترابها فإذا رضي بذلك كله من علاجها وتم تدبيره على ما اقتضته أصول صنعته حصل من ذلك كله تراب أو مائع يسمونه الاكسير ويزعمون أنه إذا ألقي على الفضة الممحاة بالنار عادت ذهبا أو النحاس المحمى بالنار عاد فضة ما قصد به في عمله".
ويعتبر ابن خلدون أن غالب مقترفي هذه الصناعة يتعاطون الغش:
"ثم منهم من يقتصر في ذلك على الدلسة فقط وأما الظاهرة كتمويه الفضة بالذهب أو النحاس بالفضة أو خلطهما على نسبة جزء أو جزءين أو ثلاثة أو الخفية كإلقاء الشبه بين المعادن بالصناعة مثل تبييض النحاس وتلبيسه بالزئبق المصعد فيجيء جسما معدنيا شبيها بالفضة ويخفى إلا على النقاد المهرة فيقدر اصحاب هذه الدلس مع دلستهم هذه سكة يسربونها في الناس ويطبعونها بطابع السلطان تمويها على الجمهور بالخلاص وهؤلاء أخس الناس حرفة وأسوأهم عاقبة لتلبسهم بسرقة أموال الناس فإن صاحب هذه الدلسة إنما هو يدفع نحاسا في الفضة وفضة في الذهب ليستخلصها لنفسه فهو سارق أو شر من السارق ومعظم هذا الصنف لدينا بالمغرب من طلبة البربر المنتبذين بأطراف البقاع ومساكن الاعمار يأوون إلى مساجد البادية ويموهون على الأغنياء منهم بأن بأيديهم صناعة الذهب والفضة والنفوس مولعة بحبهما والاستهلاك في طلبهما فيحصلون من ذلك على معاش ثم يبقى ذلك عندهم تحت الخوف والرقبة إلى أن يظهر العجز وتقع الفضيحة فيفرون إلى موضع آخر ويستجدون حالا أخرى في استهواء بعض أهل الدنيا بأطماعهم فيما لديهم ولا يزالون كذلك في ابتغاء معاشهم وهذا الصنف لا كلام معهم لأنهم بلغوا الغاية في الجهل والرداءة والاحتراف بالسرقة".
وفي أكثر من مناسبة نبه ابن خلدون إلى ضرورة الاحتياط والحذر من الغشاشين المتحيلين والمدلسين وقد تحدث عن هؤلاء في أكثر من مناسبة ومثال ذلك عن تعرضه للمنجمين فقد ذكر :
" حكى المؤرخون لأخبار بغداد . أنه كان بها أيام المقتدر وراق ذكي يعرف بالدنيا لي، يبلي الأوراق ويكتب فيها بخط عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدولة، ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة والجاه كأنها ملاحم، ويحصل بذلك على ما يريد منهم من الدنيا، وأنه وضع في بعض دفاتره ميما مكررة ثلاث مرات. وجاء به إلى مفلح مولى المقتدر -وكان عظيما في الدولة- فقال له : هذا كناية عنك، وهو مفلح مولى المقتدر (ميم) من كل واحدة. وذكر عندها ما يعلم فيه رضاه مما يناله من الملك والسلطان، ونصب له علامات لذلك من أحواله المتعارفة موه بها عليه، فبذل له ما أغناه به[17]".
غير أن ابن خلدون يرى أنه لا بد أن يتم التفريق بين هؤلاء الغشاشين- المدلسين- المحتالين وبين من لهم مقاربة عليمة فيرى أن هؤلاء طائفة يمكن مناقشتهم والحديث معهم :
"وأما من انتحل هذه الصناعة ولم يرض بحال الدلسة بل استنكف عنها ونزه نفسه عن إفساد سكة المسلمين ونقودهم وانما يطلب إحالة الفضة للذهب والرصاص والنحاس والقصدير إلى الفضة بذلك النحو من العلاج وبالأكسير الحاصل عنده فلنا مع هؤلاء متكلم وبحث في مداركهم"
وهؤلاء يناقشهم ابن خلدون نقاشا علميا دقيقا في بعض الأحيان
"فنقول إن مبنى الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعه المتطرقة وهي الذهب والفضة والرصاص والقصدير والنحاس والحديد والخارصين هل هي مختلفات بالفصول وكلها أنواع قائمة بأنفسها أو إنها مختلفة بخواص من الكيفيات وهي كلها أصناف لنوع واحد".
وفصل اختلاف الحكماء بين من يرى أنها نوع واحد وأن اختلافها إنما هو بالكيفيات من الرطوبة واليبوسة واللين والصلابة والألوان من الصفرة والبياض والسواد وهي كلها أصناف لذلك النوع الواحد وبين من يرى أنها مختلفة بالفصول وأنها أنواع متباينة كل واحد منها قائم بنفسه متحقق بحقيقته له فصل وجنس شان سائر الأنواع.
لكن لنا في الرد على أهل هذه الصناعة مأخذا آخر يتبين منه استحالة وجودها وبطلان مزعمهم أجمعين لا الطغرائي ولا ابن سينا وذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعا ويحاذون في تدبيرها وعلاجها تدبير الطبيعة في الجسم المعدني حتى أحالته ذهبا أو فضة ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتم في زمان أقصر لأنه تبين في موضوعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله وتبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه ألف وثمانين من السنين دورة الشمس الكبرى فاذا تضاعفت القوى والكيفيات في العلاج كان زمن كونه أقصر من ذلك ضرورة على ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة تصيرها كالخميرة فتفعل في الجسم المعالج الأفاعيل المطلوبة في إحالته وذلك هو الإكسير على ما تقدم وأعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية فلابد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النسبة لما تم امتزاجها فلا بد من الجزء الغالب على الكل ولا بد في كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية هي الفاعلة لكونه الحافظة لصورته ثم كل متكون في زمان فلا بد من اختلاف أطواره وانتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور حتى ينتهي الى غايته وانظر شان الإنسان في طور النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم التصوير ثم الجنين ثم المولود ثم الرضيع ثم إلى نهايته ونسب الأجزاء في كل طور تختلف في مقاديرها وكيفياتها وإلا لكان الطور الأول بعينه هو الآخر وكذا الحرارة الغريزية في كل طور مخالفة لها في الطور الآخر فانظر إلى الذهب ما يكون له في معدينه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين وما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء إلى أن يساوق فعل الطبيعة في المعدن ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتم ومن شرط الصناعة أبدا تصور ما يقصد اليه بالصنعة فمن الأمثال السائرة للحكماء "أول العمل آخر الفكرة وآخر الفكرة أول العمل" فلا بد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعددة ونسبها المتفاوتة في كل طور واختلاف الحار الغريزي عند اختلافها ومقدار الزمان في كل طور وما ينوب عنه من مقدار القوى المضاعفة ويقوم مقامه حتى يحاذي بذلك كله فعل الطبيعة في المعدن أو تعد لبعض المواد صورة مزاجية كصورة الخميرة للخبز وتفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها ومقاديرها وهذه كلها إنما يحصرها العلم المحيط والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك وإنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصنعة بمثابة من يدعي بالصنعة تخليق إنسان من المني ونحن إذا سلمنا له الإحاطة بأجزائه ونسبته وأطواره وكيفية تخليقه في رحمه وعلم ذلك علما محصلا بتفاصيله حتى لا يشذ منه شيء عن علمه سلمنا له تخليق هذا الإنسان وأنا له ذلك".
إن العبارة الختامية التي أوردها ابن خلدون في صورة استفهام إنكاري "أنا له ذلك" نراها على غاية من الأهمية فهي وإن كانت تقر أن قلب المعادن الرخيصة إلى ذهب أشبه لديه بمحاولات خلق الإنسان التي يراها مستحيلة ولكنه لا ينفي من الناحية العلمية هذا الاحتمال. فإذا تمكن العالم بعد الإحاطة بكل القوانين الفيزيائية والكيميائية وأحسن مجاراة الطبيعية وتمكن من خلق الإنسان فله ذلك فما بالك بمن يعمل على تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب خالص. هذه قمة العقلانية في نظرنا. وهذا إيمان راسخ بالعلم.
3) التفتيش عن الكنوز
انتشرت في العصر الحفصي وحتى قبله ظاهرة البحث عن الكنوز لفتت نظر ابن خلدون وعدها من باب البحث عن الرزق والمال بأيسر السبل ودون بذل الجهد.
"إعلم أن كثيرا من ضعفاء العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض ويبتغون الكسب من ذلك ويعتقدون أن أموال الأمم السالفة مختزنة كلها تحت الأرض مختوم عليها كلها بطلاسم سحرية لا يفض ختامها ذلك إلا من عثر على علمه واستحضر ما يحله من البخور والدعاء والقربان فأهل الأمصار بأفريقية يرون أن الإفرنجة الذين كانوا قبل الإسلام بها دفنوا أموالهم كذلك وأودعوها في الصحف بالكتاب إلى أن يجدوا السبيل إلى استخراجها وأهل الأمصار بالمشرق يرون مثل ذلك في أمم القبط والروم والفرس ويتناقلون في ذلك أحاديث تشبه حديث خرافة...[18]
ثم يعرض ابن خلدون أساليب هؤلاء في البحث عن الكنوز
فيشير أن هذا البحث كان بالأساس من عمل المغاربة (المغرب الأقصى) وكان باستعمال كتابات بخط غريب "أعجمي"وبأوراق يصطنع قدمها وأن هذه المجموعة كانت تتجه بالأساس للراغبين في المال خاصة من الوجهاء، فيقومون بالحفر في الظلمات وبالتخفي وحتى عند الفشل على العثور على الكنوز يبررون فشلهم بعدم تمكنهم من فض الطلاسم لصعوبة قراءتها.
- "ونجد كثيرا من طلبه البربر بالمغرب العاجزين عن المعاش الطبيعي وأسبابه يتقربون إلى أهل الدنيا بالأوراق المتخرمة الحواشي إما بخطوط عجمية أو بما ترجم بزعمهم منها من خطوط أهل الدفائن بإعطاء الأمارات عليها في أماكنها يبتغون بذلك الرزق منهم بما يبعثونه على الحفر والطلب ويموهون عليهم بأنهم إنما حملهم على الاستعانة بهم طلب الجاه في مثل هذا من منال الحكام والعقوبات وربما تكون عند بعضهم نادرة أو غريبة من الأعمال السحرية يموه بها على تصديق ما بقي من دعواه وهو بمعزل عن السحر وطرفه فتولع كثير من ضعفاء العقول بجمع الأيدي على الاحتفار والتستر فيه بظلمات الليل مخافة الرقباء وعيون أهل الدول فإذا لم يعثروا على شيء ردوا ذلك إلى الجهل بالطلسم الذي ختم به على ذلك المال يخادعون به أنفسهم عن إخفاق مطامعهم والذي يحمل على ذلك في الغالب زيادة على ضعف العقل إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب من التجارة والفلح والصناعة فيطلبونه بالوجوه المنحرفة وعلى غير المجرى الطبيعي من هذا وأمثاله"
ويدحض ابن خلدون رأي من يقول بوجود الكنوز بالحجج المنطقية العقلية مؤكدا أن :
1) الكنوز وإن كانت توجد فهي نادرة ويقع العثور عليها عرضا لا قصدا،
2) من اختزن ماله وختم عليه بالاعمال السحرية لا يضع عليه الأدلة والأمارات ولا يكتب ذلك في الصحائف حتى يطلع على ذلك الغير،
3) أفعال العقلاء لا بد وأن تكون لغرض مقصود في الانتفاع ومن اختزن المال فإنه يختزنه لولده أو قريبه أومن يؤثره وأما أن يقصد إخفاءه بالكلية عن كل أحد وإنما هو للبلاء والهلاك أو لمن لا يعرفه بالكلية ممن سيأتي من الأمم فهذا ليس من مقاصد العقلاء بوجه
4) إن المعادن مثل الحديد والنحاس والرصاص وسائر العقارات والمعادن والعمران تظهرها الأعمال الإنسانية ويزيد فيها أو ينقصها وما يوجد منها بأيدي الناس فهو متناقل متوارث،
5) أن المعادن يدركها البلاء كما يدرك سائر الموجودات ويسرع إلى اللؤلؤ والجوهر أعظم مما يسرع إلى غيره وكذا الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير ينالها البلاء والفناء ما يتلفها.
6) وأن ما وقع في مصر من أمر المطالب والكنوز فسببه أن مصر في عصر الفراعنة كانت تدفن الموتى بموجودهم من الذهب والفضة والجوهر واللآلىء على مذهب من تقدم من أهل الدول فلما انقضت الدولة حفرت قبورهم فأخذوا من قبورهم ما لا يوصف كالأهرام
هكذا يعطي ابن خلدون تبريرات عقلية فيها الكثير من المعرفة العلمية بطبيعة المعادن من ناحية وبتاريخ الدول القديمة ومعتقداتها كما فيها معرفة بطبيعة العقل البشري والمنطق الذي يسود الانسان العاقل الذي لا يمكن أن يخفي المعدن الثمينة مثلا ويضع عليها علامات ترشد غيره عليها. إنه سلوك عبثي لا يأتيه عاقل في نظره.
الخاتمة
لقد ارتأينا أن نعطي الكلمة للمصادر حتى تكون خير من يعبر عن مواقف التيارين الذين وجدا منذ القدم في المجتمعات الإسلامية ولا يزالان في مواجهة مستمرة تمزق المجتمع. الأول يدعو إلى إعمال العقل والأخذ بناصية العلوم والاستفادة منها ينبذ الغش، يشجع على البحث العلمي ويدعو إلى الفلح وبذل الجهد المتواصل وترك التواكل والسبل السهلة في الحصول على العيش. وقديما قيل "من جد وجد ومن زرع حصد".
والثاني يؤمن بالخرافة والقصة الغريبة، آثاره باقية في الكثير من الممارسات والظواهر الاجتماعية وله مؤيدوه ومناصروه في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، يرفض العلم ويسلم بالغيبيات. وهو يبغض الخضوع للنظام ويغلب المصلحة الطائفية والشخصية على المصالح العامة.
ونحن على يقين أن المنظومة التعليمية أساسا والقيمية-الفكرية عموما هما الكفيلتان بالارتقاء بالمجتمعات العربية الاسلامية مما يعتريها من سبات متمكن من الكثير من الشرائح الاجتماعية التي ترى في العودة إلى الماضي وسيلة وأسلوب لرفض كل أشكال التقدم المعاصر والوقوف أمام أشكال الحضارة الزائغة، الزائفة والمهيمنة والسالبة للذات والحرية. وهي تتشبث بهذا الفكر للهروب من الواقع ولتحقيق ما لم تتمكن من تحقيقه بالأساليب العلمية المتقدمة ولذلك تراهم متمسكون كليا بالخرافة والأساطير يناهضون العلوم بمختلف أشكالها ويشككون في كل ما تنتجه وكل أشكال الحضارة المعاصرة. وهي فئة تخير العيش في الماضي ولكنها ومع ذلك نراها تستعمل كل ما تتيحه التقنية الحديثة لمعارضتها.
ومن المؤسف حقا أن مجتمعاتنا لا تزالتطرح على نفسها الكثير مما يشد إلى الوراء. فلا زال منا من يؤمن بالطلاسم والكتابات والرموز والخطوط غير المفهومة والغامضة يعتقدون في السحرة والتعويذ وحضور الجن والشياطين يمارسون السحر لجلب الحظ والمنفعة أو لدفع الضرر والأذى فتراهم يفسدون الآثار بالتنقيب العشوائي بحثا عن الكنوز والمعادن. ويخيرون إتلاف الهوية الوطنية من أجل الربح البسيط. ولا زال منا من يؤمن بإمكانية تحويل المعادن الرخيصة إلى الذهب ومن يتشبث بالقصص العجيبة التي تناولها الأقدمون يرددونها وكأنها الحقيقة كالقول بوجود العمالقة. ومازال منا من يخيرون التداوي بالأساليب التقليدية والعلاج لدى قراء الفناجين والعرافين والحكماء الروحانيين ...فمتى ينتصر العقل العربي ويدخل الحداثة؟
المصادر
- ابن حبيب السلمي، كتاب التاريخ، بيروت، 2008
- ابن خلدون، المقدمة، تحقيق جمعة شيخة، الدار التونسية للنشر، 1984.
- ابن قتيبة ،تأويل مختلف الحديث، طبعة المكتب الإسلامي، القاهرة ، 1999.
- الزهري، كتاب الجغرافية، تجقيق محمد حاج صادق، القاهرة، دت.
- السيوطي، تحذير الخواص من أكاذيب القصاص، بيروت، 1984.
- القاضي النعمان، المجالس والمسايرات، تحقيق الحبيب الفقي و إبراهيم شبوح ومحمد اليعلاوي، تونس، 1978.
- الماوردي ، نصيحة الملوك، تحقيق خضر محمد خضر، مكتبة الفلاح، الكويت، 1983.
- المقريزي، كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، القاهرة، 1998.
[1] السيوطي، تحذير الخواص من أكاذيب القصاص، بيروت، 1984، ص.71-74. [2] ابن حبيب، التاريخ، بيروت، 2008. ص.21-22. [3] ابن حبيب، التاريخ، ص44. [4] ابن حبيب، التاريخ، ص. 29. [5] ابن حبيب، التاريخ، ص. 72. [6] ابن حبيب، التاريخ، ص.95 [7] ابن حبيب، التاريخ، ص.145 [8] الزهري، كتاب الجغرافية، ص.109، تجقيق محمد حاج صادق، القاهرة، دت. [9] المقريزي، كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، القاهرة، 1988، ج1، ص.297. [10] المواعظ، ج 1 ط بيروت، دار الكتب العلميةـ، د.ت،.ص.298 [11] ابن حبيب، تاريخ، ص.58. ونشير أن القول السائد "صلاح الوالي خير من خصب الزمان" كان متداولا في العصر الوسيط، انظر مثلا، الماوردي ( ت 1058) ، كتاب نصيحة الملوك، الكويت، 1983، ص. 34. [12] ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، مطبعة المكتب الإسلامي،1999، القاهرة، ص.45 [13] القاضي النعمان، المجالس والمسايرات، تحقيق الحبيب الفقي و إبراهيم شبوح ومحمد اليعلاوي، تونس، 1978. ص 331. [14] ابن خلدون، المقدمة، تحقيق جمعة شيخة، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984، ص.415. [15] .المقدمة، 660. [16] المقدمة 684. [17] المقدمة، ص.677. [18] ابن خلدون، 464