مديرة بيت الشعر القيرواني ومديرة أيام قرطاج الشعرية
تقول صاحبة ديوان الوجد وديوان النساء - بدايتي في مجال الإبداع كانت قوية وفيها كثير من الاندفاع، المبدع المشبع بالرغبة في كتابة الإبداع.
يفيض بتراكمات تراثية موروثة بحكم انتمائي القيرواني، كنت أحس أن كل مساميَّ وخفاياي وظواهري تنبع بالشعر وبالرغبة في الكتابة وفي القول. لكن منطق الأشياء يقول إن كل اندفاع عنيف أو قوي يكون وراءه توقف مفاجئ قد يطول. وبقدر حجم ذلك الاندفاع يكون ربما التوقف، هذا التوقف أحيانًا يحدث حتى بيني وبين نفسي وقد أجد له مبررات، كما قد لا أجدها ولا أحاول البحث عنها. توقفي عن الكتابة لا أريد أن أنعته بتلك العبارة المستهلكة أي أنه وقفة تأمل، وهذه الوقفة بقدر ما هي واعية وبقدر ما هي متعمدة فهي من اللامعتمد الكثير.
هناك مرحلة مر بها الشعر على الساحة العربية، ليس على الساحة التونسية فقط، فترة كان لا بد من التوقف فيها وإعادة النظر والتأمل في هذه الساحة التي اختلط فيها الحابل بالنابل. وبرزت فيها عديد المشاكل، مشاكل الشكل وما صاحب ذلك من خصومات أدبية واختلافات حادة وعنيفة حتى إن الشاعر لَيحس أن هذا الإبداع صار محكومًا بالضغوطات والأحكام شبه النقدية، فكان لا بد من التوقف وإعادة النظر، خاصة أن الشاعر سريع الانطواء على ذاته. وإذا انطوى الشاعر على ذاته تصعب أوْبتُه وتطول مراودته لنفسه حتى يتمكن من الخروج من قوقعته. كنت واثقة من أنني سأعود بعد هذا الانقطاع أو الصمت، وكنت أعرف أنه صمت مؤقت، وهذا الصمت المؤقت قد يكون طال قليلًا، وعلى كل لست نادمة ولا أؤنب نفسي على هذا التوقف الذي يراه البعض طويلا، لأنني عندما عدت وجدت نفسي في الوقت الذي أحس أنه كان ذلك هو الوقت الذي ينبغي أن أعود فيه، لا أدري كيف، لأنه كما قلت كالوحي يأتي ويذهب ولا تدري لماذا وكيف؟ إنتاجك الشعري قليل، هناك أمر يجب أن أوضحه، هناك توقف عن الكتابة، وهناك توقف عن النشر، والفرق بينهما كبير.
أنا لم أتوقف نعم إنتاجي قلّ لكنه لم ينقطع تماما، وأعتقد أن المبدع الحقيقي أو المسكون بهاجس الفن كالكتابة والشعر خاصة أو حتى غيرهما من الأشكال الأدبية لا يتوقف توقفا تامًا، مثل الذي كان يحترف حرفةً ويقول سأتوقف الآن. صحيح النشر هو العائق وحجم إنتاجي كثير وغزير جدا والآن دخلت في مرحلة النشر وأعتقد وأتمنى أنني لن أتوقف. فبعد أن أصدرت مجموعتي الشعرية الأولى والمجموعة الثانية بعنوان (ديوان النساء) وهي مجموعة من القصائد من وحي نساء معروفات في التاريخ، وهاتان المجموعتان جزء من مجموعة شعرية خططت لها وقسمتها حسب المحاور، وستحمل مجموعتي الثالثة عنوان (ديوان العشق التونسي) وهي جاهزة للنشر. وعندي مجموعة من القصائد العمودية سأفرد لها كتابًا وسأسميها (ديوان العرب) باعتبار أن القصيدة العمودية هي ديوان العرب. ديوان - هكذا ارتأيت. وهذا الاختيار نابع من تصور فكريّ. كلمة الديوان فيها معنى الشمولية، مثلا عندما أقول (ديوان الوجد) أكون قد شملت كل ما له علاقة بالوجدان كما أن الديوان عادة يضم الصفوة، ولا أريد من خلال هذا القول أن أدعي أنني أكتب زبدة الأشياء، وزبدة ما يكتبه الآخرون وأفضله، لا إنما هذه هي الرؤية في تخطيطي لنشر مجموعتي الشعرية.
عندي مجموعة قصصية، وكثير من القراء في تونس يعرفون أنني كتبت القصة في فترة من الفترات التي ارتدّ فيها الشعر قليلا من أواسط إلى أواخر السبعينات، عندما كَلِفَ الناس بنمط القصة القصيرة الذي شاع وانتشر. وأنا لم أكتب القصة القصيرة لأن القراء يريدون ذلك، بل لأن هذا الشكل الأدبي بين الخاطرة والأقصوصة استهواني، وأصدقائي وقرائي الذين كانوا يقرؤنني في تلك الفترة يناشدونني الآن نشرها وهو ما سيتم لاحقا، بعد أن بدأت في جمعها وتبويبها. نجد أن (ديوان الوجد) هو لوحة فسيفسائية رسم عليها الوطن، والحب والعروبة والمرأة والأرض، وهي في مجملها قيم بدأت تنطفئ، لست أنا من أعاد لها بريقها بل الشعر، الشعر هو الذي يعيد للأشياء، بريقها وأيضا هو الذي يعيد للناس الرغبة في الحياة والتعلق بها والإحساس بجمالها.
الشعر يكتب بلغة الوجدان مهما كان الموضوع ويكذب من يقول عكس هذا. الشعر هو لغة الوجدان ويظل كذلك مهما اختلفت التنظيرات والتفسيرات العلمية أو المدارس النقدية التي يريد البعض فرضها، من خلال تبنيه لنظريات نقدية مستوردة.
عندما صدرت مجموعتي الأولى أحدثت ضجة إيجابية أنا نفسي لم أكن أتوقعها. إن الرجل يقرأ كتابة المرأة من باب حب الاطلاع وفي البداية اسم الكاتبة يغريه ثم عندما يكتشف الموضوع، والقدرة على الكتابة تتغير نظرته وتتعدد ردود فعله -وأنا رأيتها كلها - فإما أن يغار أو يعجب أو يتألم لأن المرأة إنسان سوي يمكن أن تكتب وتتعامل مع فعل الكتابة مثل الرجل وليس أقل منه حتى لا أقول ربما أحسن، باعتبار هذه الخصوصية الأنثوية التي تنوي كتاباتها.
الكتابة عموما عند الرجل والمرأة هي الكلام بصوت مرتفع، ولا يمكن أن نقول هي ردة الفعل، يقول أحد النقاد إن الكتابة النسائية لم تتبلور ملامحها بعد، وهذه التجارب لا يمكن أن نقيمها تقييما نقديًّا لعدم توفر الكم اللازم؟ وهذا رأي غير صحيح، فالكتابة النسائية الآن على الساحة التونسية والساحة العربية، فيها كم يسمح بأن يرصد الخصوصيات والتميز، بدليل أنك عندما تقرأ نصًا تقول هذا لامرأة أو لرجل في حالات قليلة ونادرة.