أ.د. إدهام محمد حنش
قد لا نقول جديداً فيما إذا قلنا بأن الفن هو المعنى الثالث لكل شيء؛ على وجه الحقيقة أو المجاز، ليس لأن المعنى الفني يعمل داخل اللغة وخارجها، ولكن لأنه - على نحوٍ ما - هو لغة اللغات الحقيقية والمجازية التي تقوم على كل من الابداع والصورة والخطاب.
ونقصد بالمعنى الثالث هو المعنى الثقافي الذي هو القيمة الإضافية لكل من المعنى اللغوي والمعنى الإصطلاحي، فالفن يبدو - في الغالب – لفظاً إشكالي المبنى والمعنى في اللغة، وفي المعرفة، وفي الثقافة، إذ إن إشكاليته اللغوية تتمثل في قيود المعجم التاريخي لهذا اللفظ الذي إنبنى في (مقاييس اللغة) على كلٍ من " الفاء والنون أصلين صحيحين، يدل أحدهما على تعنيةٍ، والآخر على ضرب من الضروب في الأشياء كلها. فالأول: الفَن؛ وهو التعنية والإطراد الشديد، يقال: فننته فناً؛ إذا أطردته وعنيته. والآخر: الأفانين: أجناس الشيء وطرقه. ومنه؛ الفَنَن: وهو الغصن، وجمعه: أفنان، ويقال: شجرة فنواء، قال أبو عبيد: كأن تقديره فَنّاء " بحسب ما يرى اللغوي الرائد في معجمه الفذ لمقاييس اللغة. وتتمثل إشكالية الفن المعرفية في ولادة مفهومه - المتفلت نوعاً ما من معناه اللغوي السابق - من رحم المثاقفة اللغوية التي قامت حديثاً على الترجمة في ما بين اللغة العربية من جهة، واللغات الأوربية - الفرنسية بخاصة - من جهة أخرى، إذ ربما كانت هذه الترجمة قد فتحت أبواب اللغة العربية الحديثة والمعاصرة لإكتساب لفظة الفن العربية معاني ومفاهيم ودلالات جديدة ذات بعد معرفي يتعلق بعلم الجمال تحديداً. أما إشكالية الفن الثقافية فهي الإشكالية الجامعة في تحولاتها الدلالية بين الإشكاليتين اللغوية والمعرفية، لأنها تقوم في الأساس على تجسير الهوة الواسعة بين معنى الفن في معجم اللغة التاريخي من جهة، ومفهومه المعرفي المتصل بعلم الجمال الحديث من جهة أخرى، حيث صارت للفن تحولات دلالية نابعة من المعنى اللغوي والمفهوم المعرفي معاً، ولكن هذه التحولات آلت معرفياً ومنهجياً الى علم النقد الذي جعل الفن يتمتع - على وجه التفرد والخصوصية - بمعنى أو مفهوم أو دلالة ثالثة من التحولات اللغوية-المعرفية التي قد لا تتمتع بها ألفاظ أو مصطلحات أخرى في الثقافة العربية المعاصرة؛ يمكن أن نسمي تلك التحولات: الخطاب.
والخطاب في تعريفه الموجز العام هو: بثٌ لغوي - معرفي بالمعنى الحديث للغة الذي يقوم على ان اللغة مجموعة من الرموز اللسانية أو غير اللسانية، فقد يكون الخطاب لغوياً محضاً؛ يتمثل في كلام أو نص لغوي يعمل في سياق إجتماعي لإبلاغ فكرة أو توصيل رسالة، أو قد يكون الخطاب لا لغوياً؛ يتمثل في علامة أو صورة أو غيرهما، ولكنه مفهوم ثقافي بامتياز، لأنه يجمع بين الحسنيين: اللغة والمعرفة.
من هنا؛ يمكن التأكيد على أن الفن هو لفظ شائك الإشكالية من حيث المعنى والمفهوم والدلالة،بلربماكان هذا اللفظ - ولا يزال - واحداً من أكثر ألفاظ اللغة العربيةالحديثة والمعاصرة إشكاليةً في التداول اللغوي والمعرفي والثقافي، لصعوبة الفصل فيه بين معنى الفن اللغوي ومفهومه المعرفي ودلالته الثقافية، ولأن كل عنصر من عناصر الفن يشكل نواةً معنوية ومنطلقاً مفهومياً وبؤرةً دلالية للعنصر الآخر في أنساقالخطاب الفني الثقافية التي ربمالا تخرج فيه تحولات الفن المفهومية وتداولاته الدلالية عن المعنى اللغوي الكامن في أصل البناء الصرفي للفظة الفن من المعجم اللغوي العربي الذي حدد معنى الفن بالنوع وحيويته بالتنوعبوصفهما أشبه بالحبل السري والعصب الحيوي المحرك لكل معاني الفن اللغوية، ومفهوماته المعرفية، ودلالاته الثقافية التي يمكن القول بأنها حولت الفن من كلمة ذات معنى لغوي محدد الى مصطلح ذي مفهوم معرفي واسع وممتد؛ينتهي بالفن في حضن الثقافة الاجتماعية بعداً ثالثاً لمعاني الأصالة والخصوصية والهوية.