الأستاذ الدكتور فتحي التريكي، المشرف على كرسي الإيسيسكو للتفكير في العيش المشترك - القصر السعيد - تونس
بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة أنشر هذه التدوينة لتوضيح التوجّه الفلسفي حاليا.
آن الأوان، لا سيما بعد الثورة التكنولوجيّة والرقميّة الهائلة، أن نعود إلى تطوير الفلسفة بمعناها الواقعي، تلك التي تهتم كما يقول الفارابي «بالفضائل النظريّة أوّلا ثمّ بالفضائل العمليّة». فالفلسفة هي عمليّة تشخيص واقع الإنسان ومقتضياته ومستتبعاته بأدوات نظريّة وطريقة بحثيّة نقديّة تعتمد ما سمّاه الفيلسوف الفرنسي كانغلام «خدمة المفاهيم» أي فهمها في مواضعها أوّلا ثمّ إمكانيّة الاعتماد على نقلها من ميدان ولادتها إلى ميادين أخرى واتخاذها نموذجا لمباحث متعدّدة وتكوينها وإعادة تكوينها. والفلسفة هي أيضا ربط هذا التشخيص المتعلق بالواقع المعيش بإمكانيّة التغيير والإصلاح بحثا عن سعادة الإنسان القصوى.
والحقيقة أن معضلة تأرجح الفكر الفلسفي بين النظر والعمل بقيت تصاحب الفلسفة في جميع أطوارها. فهل التـّفلسف في كنهه وخارج كل تجربة ممكنة يبقى انتزاعا وتعاليا عن الجزئي والإجتماعي واليومي إذ أن همّـه الأوّل يتمثـّل في صنع الأفكار وبناء التصورات وإبداع المفاهيم أم أن مقصدها الأساسي يكمن في تأسيس مبادئ حاملة للاتـّفاق والتـّواصل البشري من حيث هو نموذج معياري للنظر في الكونيـّة أي كونيـّة التواصل والتعايش الحر؟ أو بتعبير آخر هل الفيلسوف الفرنسي دولوز على حقّ في تأكيده على الانتزاع والتعالي أم الحقّ مع الفيلسوف الألماني هبرماس عندما يؤكـّد على التواصل ؟
ليس ثمّة شك أنّ التواصلية وحدها، في نظر دولوز، غير قادرة أن تكون أسّا من أسس الفلسفة. صحيح أن الحوار عند سقراط و أفلاطون هو لا محالة سمة التفلسف التأسيسية، ولكنّ الحوار الفلسفي الحقيقي لن يكون بين عامّة النّاس ومجاله لا يكمن في الفضاء العمومي ولا يتطلب الانضواء العام. فالفيلسوف هو غير الخطيب وغير السفسطائي، وغير الأديب، لذلك على الحوار إذا ما أراد أن يكون فلسفيا أن يستجيب لشروط محدّدة ومن بينها التـّواصل داخل فئة خاصة معنيـّة بالتوجّه الفلسفي وقادرة على الاستدلال فتتـّسم إذن بالقدرة على التفكير وعلى الحريّة. فالحوار الفلسفي في نظر دولوز هو أصلا حوار بين صديقين والصداقة في الفلسفة هي للمفهوم دون سواه والمفهوم يقصي العام ويتجرد عن العمومي.
هكذا تبقى فلسفة دولوز مرتبطة بالتقاليد الفلسفية التي تربط عملية التفلسف بالتعالي وتحصرها بين خاصة الناس من ناحية ولكنها تترعرع ضمن الإشكالية النتشويّة المعيارية والنخبويّة فتقصي "السوق" و "الضجيج" و"الطنين" ولا تعترف لا بالحوار ولا بالتـّواصل مع العموم ضمن فعل التفلسف، لأنّ خاصيتها الأولى هي بناء المفاهيم التي بواسطتها تقرع السـّائد والسّوقي والعادي واليومي وتفتح الفكر على اللامتوقـّع لتعبـّر عن كثافة الإشكالات التي تعترضها وعن شروط حلـّها وإمكاناتها. والمفاهيم بطبعها لا تلتفت إلى الفوارق والجزئيات والخصائص الضيـّقة بل تعتني بالتـّماهي والتجرد والتعميم.
أما هبرماس فهو يعتبر أنّ العقل المكوِّن للمفهوم معرّض دائما للنقد حسب قاعدة كانط القائلة بأنّ نقد العقل هو من عمل العقل نفسه بحيث سيكون هذا العقل النقدي المنفتح مرتبطا دائما بالنقاش العمومي وبأخلاقيـّاته وبالحوار الذي سيتحوّل إلى طاقة تواصلية هائلة قد تحقـّق الاتفاق بين البشر. وبذلك سيكون هدف التـّفلسف هو إرساء علاقات حوار واتفاق بين الناس تفاديا للعنف والتخاصم والتحارب. فمجال الفلسفة هو مجال الحوار والتسامح والاحترام، مجال الفضاء العمومي حيث يتواصل الناس بأفكارهم ونقاشهم وبحرّيتهم وتعابـيـرهم المختلفة وحيث تتحدّد هويـّتهم فيحصل التـّذاوت والتواصل بالمحبة التـّسالمية أو بالمواجهة التنافسية. فيبقى السياسي بالنسبة إلى هبرماس هو المجال الأمثل للتـّفلسف.
إذن إمّا دولوز و إمّا هبرماس، إمّا أن نعتبر الفلسفة عمليّة فكريّة تتـّجه إلى الخاصّة أساسا وإمّا أن تكون عمليّة تواصليّة عموميّة تبحث عن اتفاق ممكن بين الجميع.
في حقيقة الأمر قد لا يكون دولوز دائما محقـّا في تأكيده على انعزاليّة الفلسفة وهو الذي دافع عن فلسفة الاختلاف والتنوع والتشرّد. كذلك لا يكون هبرماس دائما على حق عندما يجعل من الفلسفة حوارا عموميا فقط مقصده تجنـّب العنف. ومع ذلك لكليهما الحق في الدّفاع عن التفلسف، الأوّل عندما دافع عن محايثة المفهوم وانتزاع التفلسف في الآن والثاني عندما ربطه بالتـّواصل وذكّر بأصلها اللوغوسي الحواري.
إنّ قلق الفلسفة يتأتـّى من تلك المعضلة التي عبـّرنا عنها والتي نرمز إليها بالإما التناوبية : إمّا دولوز و إمّا هبرماس : فكلـّما حاول التـّفلسف الانغماس في الجمهور والحشد كلـّما اكتشف عزلته. وكلـّما توصّل إلى تحقيق انتزاعه وتجرّده كـلـّما اكتشف ضرورة ارتباطه بالواقع اليومي.
ومهما يكن من أمر فإن دور الفلسفة الآن بعد الثورة الرقميّة يكمن في إعادة صياغة المفاهيم حسب قاعدة الصداقة الدولوزية من ناحية وفي النزول إلى الميدان العمومي للتوضيح والنقد والتشخيص والتنظير حتى يكون التواصل مع العامة مجديا ومحررا للوجدان والعقول وحتى تصبح عملية التحديث غير مناقضة للكيان بل ستغرس في العامة فكرة تأصيل التكنولوجيا والعلوم والمظاهر الساطعة للحداثة وتحديث المرجعيات والانتماءات فيزول بذلك التأرجح الفلسفي بين النظر والعمل ويكون القلق الفلسفي مبدعا للكيان ومحرّرا للذّات.