مريم لمفنن
أستاذة /طالبة دكتوراه، مختبر البحث: التربية، الفن، الثقافة، مركز البحث: الإنسان، المجتمع، التربية.
كلية علوم التربية جامعة محمد الخامس، المغرب.
البريدالإلكتروني: lemfnnenmaryam@gmail.com
* الملخص.
تروم هذه الورقة البحثية الكشف عن البورت يهات النسائية التي جسدها النسق السردي في رواية " زمن الأخطاء" وما حملته من صور ثقافية اجتماعية للمجتمع المغربي في مرحلة ما بعد الاستقلال؛ بحيث شكلت المرأة في هذا المنجز السير ذاتي الروائي بنية نسقية ثقافية، كانت مدار السرد فمن خلالها استطاع السارد أن يحفر في البني الاجتماعية والثقافية للمجتمع المغربي لينجلي واقع المرأة تحت ربقة مجتمع ذكوري يحجب حضورها؛ إلا باعتبارها موضوعا للرغبة والجنس، وتحقيق نزواته. يسعى البحث إلى تتبع المسارات السردية التي حفلت بها السيرة الذاتية الروائية من خلال محكي الذات الذي تجسد في مرايا الأخرين لأن تجربة حياة الكاتب توزعت فصولها عبر سرد محكيات نسائية (كنزة، فطيمة، حبيبة، ربيعة، كنزة، سالية، الأم، باترسيا..) فهي الشخوص التي ظل يصر السارد على أن تكون ركائز كتابته سابرا من خلالها أغوار الفساد المجتمعي، الذي كانت المرأة أداته فمن (دعارة، وسكر، وخيانة... ورصد الفساد المجتمعي من خلال مؤسساته الأسرة، والمستشفى...) كلها رهانات سردية اقتنصت لحظات الهامش وحيوات المهمشات اليائسات من نهار طنجة الباحثات عن أملها الليلي في حناتها ومواخيرها.
*الكلمات المفتاحية : العتبات النصية، السيرة الذاتية، المرأة، الرواية العربية الحديثة، الرواية المغربية.
This research Paper aims to reveal the women’s portraits That were represented in the narrative pattern in the novel "The time of errors" cultural and social images it carried for Moroccon society in the post-Independence period
So That the women in this biography formed a cultural systemic structure, through which the narrator was able to dig into the social and cultural structures of Moroccan society to clarify the reality of women under of a patriarchal society of that obscures her presence except as a subject of desire and sex, and the realization of his whims.
The research seeks to trace the narrative paths that were filled with the novelist’s biography through the self-narration that was embodied in the mirrors of others because the writer’s life experience was divided into chapters through the narration of women’s narrative (kenza, Fatima, saliya, the mother of writer’s, and Patricia…) they are the figures through which the narrator has insisted that the pillars of his writing be the revelations of societal corruption of which women have been the tool of prostitution drunkenness … Monitoring societal corruption through its family institutions Hospital…) All of them are narrative bets that have captured moments of marginality and the desperate Lives of the marginalized women from the day of tangier city looking for their nightly hope in their pubs and Brothels.
*Keywords: Text thresholds, autobiography, women, modern Arabic novel, Moroccan novel.
*مقدمة.
"الرواية هي تلك الكوة التي نطل منها على العالم " بهذا التعريف للوسيان كولدمان تكون الرواية هي نافذتنا التي نكتشف من خلالها العالم حيث البطل في " بحثه الشيطاني المنهار" عن أحلامه الهاربة يخوض صراعا مع العالم الذي اتسعت هوته، محاولا بروايته جمع شتات العالم المشوه، وبالتالي تغدو الرواية مسعى جاد في رأب الصدع التاريخي الاجتماعي والثقافي ربما نرجع لطفولتنا البشرية ووحدتنا وانسجامنا مع العالم، الذي أصبحنا نحرك عجلة تاريخه بصراعنا وتناقضنا، ربما نحدث تصالحا مع ذواتنا التي تصارعنا وعالم يعج بالمتناقضات، حيث أضحت غربتنا فيه أقسى من الغربة ذاتها، فما لنا سوى فسحة الإبداع ونافذة الأدب التي نتنفس فيها أمل الرجوع.
إن تجربة محمد شكري في الرواية المغربية هي تجربة رائدة في الرواية الواقعية المغربية ونخص بالذكر هنا التجربة السير ذاتية الروائية "زمن الأخطاء" التي تمنح لنا نفسها للقرب من صورة المرأة في مجتمع الرواية، الذي نطل منه على المرأة في المجتمع المغربي. يعكس محمد شكري من خلال مرآة مستوية وهي " رواية زمن الأخطاء" بواقعية لاذعة وساخرة، من دون تكلف
أو زخرفة في الألفاظ والمعاني بغية سبر أغوار النظام الاجتماعي من خلال تجربة الهامش التي عاشها محمد شكري ومكنته من فضح مثالب عشقه الأسطوري "طنجة" نسعى من خلال هذا البحث إلى مكاشفة " زمن الأخطاء" من خلال هذا الثالوث المفاهيمي الذي يؤثث فضاء الرواية (المرأة، الليل، طنجة) محاولين الكشف عن البعد العلائقي وكيفية اشتغال صورة المرأة في رواية "زمن الأخطاء" هذه الصورة التي ليست خيالية أو صورة ترسمها ريشة فنان سوريالي، أو صورة امرأة يغازلها شاعر جاهلي، أو شاعر معاصر باحث عن خلاصه في صورة المرأة، هي في العمل الروائي لمحمد شكري غير هذا ذاك هي صورة، يرسمها النسيج المجتمعي ببنياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هذه البنى التي تتفاعل فيما بينها لتعطي صورة امرأة مقهورة مطبوعة بالسلبية، عبر مواقف متباينة يعرضها الروائي ويعكس من خلالها مشاكل طبقته في روايته " زمن الأخطاء" التي تبرز لنا عتبتها الكاشفة عن كينونة النص الروائي حيث مشروعية السؤال عن زمن أخطاء من؟ أخطاء محمد شكري؟ أم أخطاء المجتمع الذي يقذف بالمرأة إلى عالم طنجة السفلي وزرقة دورها المغتسلة بماء البحر تخفي الوحل الأسن لعالم الهامش، فتصير المرأة لعبة هذه المدينة "طنجة" التي تسحقها وتلعن جسدها في زمن ليلي يرمي بها إلى جلاديها.
*الإشكالية.
شهدت الرواية المغربية الحديثة تغيرات كثيرة وذلك انسجاما مع تحولات الواقع الاجتماعي، بما أن الجنس الروائي قادر على استيعاب المتغيرات الاجتماعية، وتقويض الشكل التقليدي للرواية المغربية والتعبير عن قضايا اجتماعية حارقة وتعرية كل الأوهام التي ارتبطت بمغرب ما قبل الاستقلال. استنادا إلى هذه المعطيات يمكننا أن تتساءل هنا عن ملامح توظيف صورة المرأة في الرواية المغربية؟ وكيف أثرت التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع المغربي في فترة ما بعد الاستعمار على تغيير صورة المرأة المغربية؟
*فرضيات البحث.
1 - تمكن الرواية المغربية من استثمار مقومات ومعطيات جديدة في الشكل والمضمون مستفيدة من التجارب السابقة.
2- انفتاح الرواية المغربية على النماذج الروائية المختلفة شكل انعطافا هاما في تاريخ السرد المغربي الحديث.
3- تكسير النمط التاريخي الأخلاقي في الرواية المغربية تم معه تكسير كل الأوهام والأحلام التي أصابت فترة ما بعد الاستقلال.
4-كشفت الرواية المغربية عن زيف الواقع والأحلام الهاربة بعد الاستقلال.
5- الكتابات الروائية الحديثة شكلت صرخة أدبية عن قضايا الإنسان المقهور والواقع المغربي الذي يعج بالمتناقضات.
*أهمية الدراسة.
تتمثل أهمية هذه الدراسة في كونها تروم الكشف عن صورة المرأة في مجتمع الرواية الذي نطل منه على المرأة في الواقع المغربي، بإماطة اللثام عن هذه الصورة الحبلى بالمتناقضات الاجتماعية والثقافية التي رسمت بألوان السلبية والهشاشة الاجتماعية، كما يستهدف تسليط الضوء على تغير نمط الكتابة الروائية نحو نمط كتابة واقعية تنصت لنبض المجتمع واضطراباته بما أن الكتابة الروائية تستطيع أن تكون رؤية للعالم.
*أهداف الدراسة.
1- تسليط الضوء على الخصائص الفنية للرواية المغربية الحديثة.
2- معرفة حضور المرأة في تراث الرواية العربية.
3- الكشف عن ملامح التوظيف الفني لصورة المرأة في الرواية العربية.
4- معرفة كيف تغيرت صورة المرأة المغربية في واقع مغرب ما بعد الاستقلال.
5- مقاربة تمثلات صورة المرأة في السيرة الذاتية لرواية زمن الأخطاء وكيف وصف السارد مختلف شخصياته النسائية من خلال تجربته الذاتية التي انجلت عن طريقها حيوات النساء ومعناتهن.
*الخصائص الفنية للرواية المغربية الحديثة.
تستمد الرواية ديناميتها النظرية والإجرائية جنسا أدبيا في تشكل دائم حسب دينامية المجتمع في تغير البنية وتحولاتها التي تفرض أشكالا روائية جديدة[1].
فتكون تحولات السرد الروائي الموضوعاتية والبنيوية وليدة تحولات الواقع المعاصر في شتى المجالات إذ بقدر ما يكون الواقع جديدا يكون النص الأدبي الذي يكشف عن هذا الواقع ذا شكل شاذ وغير مألوف وبالتالي ، فالرواية المغربية لم تكن بعيدة عن هذا السياق الثقافي الاجتماعي العربي المتغير " ومن تم امتداد الخلافات السياسية وارتباط الأدب بالتعبير عن القضايا الاجتماعية والأيديولوجية واتجاه الرواية إلى تصوير أجواء الصراع واستجلاء أسباب الخيبة والتقاط أصوات التمرد[2] لقد استطاع نجيب محفوظ أن يؤسس مدرسة روائية جديدة تضطلع برصد جل المتغيرات الاجتماعية واستيعابها والتقاط الحقائق التي تسكت عنها الخطابات السياسية والأيديولوجية، فالرواية المغربية لم تكن بمنأى عن هذه التجربة، حيث نبغت أقلام كتاب روائيين خاضوا تجربة الانتقاد واقتحام الطابوهات وتعرية الأوهام مثل " ثلاثية محمد شكري ،الخبز الحافي، زمن الأخطاء، وجوه" وثلاثية ربيع مبارك الروائية "درب السلطان" ظل الأساس نزهة البلدية" ومحمد زفزاف المرأة والوردة "بيضة الديك" كان وأخواتها" عبد القادر الشاوي. ويمكن رصد أهم الخصائص التي ميزت الرواية المغربية
الجديدة في كونها عملت على مسائلة مظاهر الاستبداد السياسي والحيف الاجتماعي واللغة المتخشبة، والايديولوجيا السائدة والأحادية في التعبير والرؤية ،إلى تعدد لغوي وإيديولوجي ثقافي والعمل على تقويض مفهوم الشكل التقليدي الخطي واعتماد الكتابة الشذرية والتداعي الحر، عن طريق تقطيع الزمن واستخدام تقنية الرواة وتعدد الصيغ وهو إعلان عن ضرورة نهاية الصوت الأحادي السائد، من أجل تجريب أشكال تعبيرية متعددة مستوحاة من التراث الغربي الإسلامي أو من الإرث الإنساني الكوني ، كما اعتمدت كتابة الرواية على استبدال الأدب المساوي للواقع بمفهوم علائقي يفترض تحويل الواقع وإعادة نسجه عبر الكلمات والأخيلة والرموز ومن تم كان تنويع التخييل وتوسيع دائرته بمخاطبة اللاشعور وبعث الأحلام وإماطة اللثام عن المغيب والمنفلت، فقد عرفت الرواية المغربية إمكانات بكر متأثرة بالرواية العربية التي استلهت التأثير من الرواية الروسية والفرنسية وبالتالي استطاعت الرواية المغربية المساهمة في مناهضة مناخ التقهقر الأيديولوجي كاشفة زيف الأوهام وقائلة مالايقال في مجمل محافل الكلام .
*حضور صورة المرأة في تراث الرواية العربية.
لقد كانت المرأة مصدر إلهام لجل الأعمال التي أبدعها الرجل منذ القدم شعرا ونثرا، وقد عايشت صورة المرأة مخيال الشعوب قديما وحديثا فكانت أصدق شخصية ساعدت الروائي على نقل تصوراته حول الحياة المتخيلة والقصصية منها والروائية التي تصور المرأة باعتبارها ذات فردية تعيش ضمن الشرط الإنساني واللغوي للمؤلف كشخصية محورية تبتدئ في وعي الكتابة كما في واقعها اليومي الذي تحياه، إن صورة المرأة في الرواية العربية كانت تتعدى وجودها الفردي إلى حقائق أبعد من هذا الوجود؛ للمرأة في الرواية العربية مساحة كبيرة ومؤثرة في حركية النص وتشكل هيكله السردي، وتمثل أحيانا الدافع الأقوى لدى السارد لكي يمارس فعله السردي.
ارتبط ظهور الرواية بتحرر الشعوب من الاضطهاد فأصبحت متصلة بنهضة الوطن وتحرر المرأة، فازدهرت الرواية العربية في الثلاثينيات لارتباطها بواقع البطولة العربية في ظل عالم عرف مروره الزمني عبر الرجل مما خلق التحول في أبوية النظام الاجتماعي لصورة المرأة التي يخترقها السلب منذ عصور خلت " كما أن كل الروائيين قد كانوا واعيين بارتباط حركة المرأة بالمجتمع ومن ناحية أخرى بدلالة المرأة كرمز ثري موحي للتعبير عن الوطن."[3]
لم تكن قضية المرأة فيما أنتجه الروائيين سوى قضية المؤلف لا تعبر سوى من زاوية خاصة للنظر ولا ترقى إلى كونها قضية مجتمع بكامله وقد وظفت المرأة لتعكس أزمة المجتمع التواق للحرية بما تمتاز به من حساسية مرهفة على تكثيف الإيحاء بحجم الظلم الاجتماعي. ولقد كانت المواضيع التي تناولتها الرواية العربية المصرية " خصوصا" مواضيع مثل الحب باعتباره قضية لم يكن لها معنى لذاتها في هذه المرحلة التي عاشتها الدول العربية؛ فلم يكن تناول مثل هذه المواضيع سوى تعبير رمزي عن أزمة الحرية وفساد الأوضاع الاجتماعية بسبب الصراع الطبقي، حيث عبر عن ذلك طه ودادي " إلى أنه كانت صورة المرأة في الرواية فردية...تعبر عن أزمة الفرد في علاقته بمجتمعه."[4]
*ملامح التوظيف الفني لصورة المرأة بالرواية العربية.
استفاد الروائي من قضية المرأة أنذاك ووظفها توظيفا فنيا شخص فيه أزمة الأديب وجسد فيها مشاكل عصره أنذاك ، فيبتدأ الروائي عمله الفني بالتطرق للحب ومشكلاته ثم ينتقل إلى مستوى ثان:" إلى نوع من الاحتجاج الفردي السلبي على بعض أزمات التفاوت الطبقي ومشكلات العصر السياسية والأيديولوجية."[5]فقد شكلت سنة 1945 مع نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية فترة التيار الرومانسي والبداية القوية للمدرسة الواقعية في الأدب العربي التي دشنها الروائي نجيب محفوظ بروايته "القاهرة الجديدة"، ليتم توظيف الروائي لجسد المرأة والجنس توظيفا رمزيا .في رواية " أنا حرة " للكاتب إحسان عبد القدوس جعل من الفتاة " أمينة" محور الأزمة حيث اختزل الكاتب عالم المرأة في تابع ومريد لإرادة الرجل المانح للسعادة القصوى في معبد الجنس " أحست بهذه النار تسري في جسدها كأنها نغمات الحياة، ثم أحست بوجهه فوق وجهها وعبير عبق من أنفاسه يلفها كأنها رقصت عارية فوق المذبح المقدس..."[6]
استنادا إلى هذه المعطيات انبثق التعامل مع الجسد الأنثوي والتوظيف لصورة المرأة بشكل صوري يحجب الغرض الحقيقي للكاتب، بغية التعبير عن انهيار قيم عجزت عن خلق صيغة لها بالأخلاق والمثل الاجتماعية العربية؛ فقدمت المرأة العربية وحدها في البحث عن حريتها، الحرية التي لم تصبح هدفا في ذاتها وإنما وسيلة لتحقيق المطالب الملحة للجسد كتعبير عن أزمة الحرية التي تحياها الفتاة العربية على مستوى الطبقة. إن قضية التحرر الاجتماعي قد فاضت بالرواية العربية، والإيمان باستقلال المرأة الاقتصادي للممارسة متساوية مع الرجل وفي استقلالها العاطفي، إذ شغلت حرية المرأة عددا كبيرا من المفكرين في العصر الحديث، فقد وجد هؤلاء وعلى رأسهم " قاسم أمين" أن العلل التي يشكو منها المجتمع العربي تعود في قسم كبير منها إلى جهل المرأة وعدم تحررها من عصر الحريم ومن ذلك جاءت البطولة الشكلية للمرأة بالرواية لتعميق أزمة مجتمعية على كيانها المتعفن ضمن واقع أصبح يتحرك بسرعة ومن تم اعتبر جورج لوكاتش :"أن سلبية بطل الرواية ليست ضرورة شكلية بل إنها تميز علاقة هذا البطل بروحه وبالعالم المحيط به."[7]
*تجليات تغير صورة المرأة المغربية في الرواية.
منذ بداية الاتصال الثقافي مع الغرب، عرفت المنطقة العربية عدة تغيرات على المستوى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وارتبطت جل هذه المتغيرات بالبنيات المهيكلة للمجتمع لارتباطها الوثيق بالعوامل التي مهدت الطريق لمخاض ولادة قيسرية جديدة انجبت مولودا ثقافيا واجتماعيا مشوها، لتطفو بذلك على خارطة المنطقة العربية عدة تمظهرات اجتماعية ثقافية اقتصادية. المغرب لم ينأى عن هذا السياق الحضاري والثقافي المتغير، ولعل أبرز العوامل التي يمكن أن نشير إليها هنا هو عامل الاستعمار الفرنسي والاسباني وما حمله معه من مستجدات ثقافية وإيديولوجية وما كان يحمله معه المستعمر في مخياله الثقافي من أفكار نمطية مسبقة حول البلد المستعمر، لقد كان بحث الدول الرأسمالية الإمبريالية عن أسواق خارج البحار لتصريف فائض الإنتاج ذريعة مموهة لأغراض استعمارية استغلالية محضة، بالإضافة إلى مهمة تمدين وتحضير شعوب العالم الثالث وإخراجهم من غياهب التخلف والهمجية بغية وصولهم إلى بر الأمان والحضارة ؛ حمل الاستعمار في طياته مأرب أخرى منها محاولته محو هوية المغربي وجعله يعيش وفق النمط الأوروبي، في بحثه الدؤوب لتشويه تراثه الثقافي والنبش في البنى الثقافية المغربية، إن هذا التنقيب في البنى الثقافية للمغرب من أجل تغييرها جعل الذات المغربية تعيش حالة من التمزق والتشظي لا هي بالهنا ولا بالهناك ما بين انبهارها بالتقدم الكبير الذي وصل إليه الغرب، والانكسار والإحباط من تخلف الذات ومحاولة تمسكها بقيمها ومبادئها التي تمنحها هويتها وفرادتها فلم تحسم في الاختيار ما بين أن تختار الانسلاخ الكلي من ذاتها وذوبانها في ذات الأخر وحضارته ومابين محافظتها على قيمها ومبادئها ، لم يكن الاختيار بالسهل مما جعل الذات تعيش حالة من الانفصام الثقافي والجرح الهوياتي فقد جاء الاستعمار مبشرا بقيم حداثية اجتماعية ثقافية، ويمكن هنا أن نتساءل عن كيف أصبحت صورة المرأة المغربية بعد هذا المخاض الثقافي والاجتماعي؛ فلم تكن المرأة بمنأى عن هذه التحولات فهي في قلب الحدث حيث تغير وجود المرأة من المرأة الحريم التي لم يكن بمقدورها أو استطاعتها أن تطل من شرفات منزلها، فهي تلك القاصر التي تحتاج دائما للوصاية الأبوية إلى عصر تحررها وانعتاقها من ربقة "التسلط" السلطة الذكورية وخروجها إلى الشارع العام " كان هناك قرد يشاكسه الأطفال في قفصه ومصور يعرض على العشاق بشاشة أن يلتقط لهم صورا؛ العشق المغربي المبهور ببطولة الحرية، بدأ يخرج من المخابئ، وراء الشبابيك إلى الشوارع ودور السينما، وتحت الأشجار، في أزياء أوروبية وربطات العنق تناسق الألوان غير منسجم والخطو بالحذاء ذي الكعب العالي متعثر تيه ودلال ساذجان. عمر العشق لم يتحضر بعد."[8]
لقد أخذ تحرر المرأة في المجتمع مستويين متناقضين: مستوى إيجابي تمتعت فيه المرأة بفرض وجودها وشخصيتها وثقافتها وعملها في مناصب مرموقة، ومستوى سلبي: تحرر جسدي يكرس صورة نمطية عن المرأة في استغلال جسدها وأنوثتها من خلال عالم الرواية الذي هو صورة مصغرة تعكس الواقع المغربي "الطنجوي" وحضور المرأة فيه الذي سنحاول من خلاله فهم صورة المرأة.
*صورة المرأة في رواية " زمن الأخطاء ".
يستمر حضور المرأة في الرواية العربية ليجد له امتدادا في الرواية المغربية الحديثة العهد كتجربة محمد شكري بروايته " زمن الأخطاء" التي عملت على تصوير المواقف ورصد التحولات السلبية التي أضحت تمس مغرب ما بعد الاستقلال تمس الواقع والناس والأمكنة والأشياء، وقد نجمت تغيرات مثيرة ومقلقة في المواقف والرؤى، وفي الأحاسيس والمشاعر وفي العلاقات الإنسانية، بل غدت تمس وتهدد حتى علاقة الفرد بذاته، لذلك فشخصيات الرواية من النساء تتعدد وتتنوع لتصنع أحداثا ومواقف تؤثث المجتمع السردي إذ يحاول السارد من خلالها تصوير الواقع المغربي وواقع مجتمع طنجة تحديدا وما تحمله ذات المرأة من هموم وهواجس وتطلعات وأحزان.
رغبت المرأة المغربية في المدينة الحديثة وقيمها الجديدة التي جاءت مع الحضارة الغربية، فهي تعيش الحضارة الحديثة بكل أزماتها، فقد تمكنت رواية " زمن الأخطاء" من رسم صورة شفافة للمرأة في هذه المدينة العالمية طنجة، المطلة على أوروبا وبالتالي، تغيير عقلية المرأة في هذه المدينة وأخذ ها لمسار خاصا في بلورة شخصيتها" المتحررة المنفتحة" التي تبحث عن نفسها في نطاق مجتمع يغدو مدنيا له أبعاده الخاصة وسماته المتعددة، لتنصهر المرأة في قلب الغواية والمدينة التي تلتهم جسدها في الليل والعالم السري لمدينة البحر والحلم " طنجة " (مواخير، حانات، مقاهي...) نجد أن هناك جوانب أفرزها زمن الاستعمار الإسباني في أحياء طنجة مثل حانات ( حانة الجايو خاكوبيتو، فندق لابلاتا، فندق فيللادوفرانس، أركاديا مقهى ماريا، مقهى روكسي...)[9]
كل الحانات والمقاهي والفنادق لها أسماء اسبانية، كما أنه لم يعد هناك فرق ما بين امرأة أجنبية (اسبانية) ترتاد الحانات والمقاهي وتشرب نخبها حتى الثمالة، وما بين امرأة مغربية مانحة جسدها لرواد الحانات وبيوت الدعارة والأوتيلات والمواخير " هناك امرأة تشرب مع جماعة من الاسبانيين، تضحك كثيرا ويغازلها ثلاثة."[10] ".... نتلاطف بالأنخاب والبسمات
فإذا بها تشرق كما لو أنها في حفل زاه."[11] " تعمل كنزة في مرقص شرقي... في ليلة عادت سكرانة سائق سيارة الأجرة يسندها."[12] إن استدعاء الخمر هنا رهان سردي أخر فهو إجراء دال على سيادة ثقافة استهلاكية جديدة وطارئة على المجتمع المغربي وتشكل عنصرا سرديا وقوة فاعلة تصور مرارة الشعور لدى المرأة وتجلي اضطرارها للبحث عن عناصر تعويضية تغطي أحاسيس الاضطراب علها تعوضها عن حالة السخط على وضعها وما تعيشه من قهر اجتماعي طبقي جعلها تقدم جسدها وأنوثتها وليمة لليل.
خرجت المرأة المغربية عن نطاق العادات المغربية المحافظة والمألوف بها في المجتمع المغربي وبالتالي فالرواية تسعى لتحقيق رهانها السردي من خلال تسليطها الضوء على صورة المرأة المهمشة القادمة من القاع الاجتماعي والأحياء الشعبية أو الوافدة من القرية إلى المدينة الباحثة عن لقمة العيش على حساب جسدها، فكانت المرأة عند " محمد شكري" تمثل صورة من صور المجتمع السري لطنجة الذي يمثل الفوارق الاجتماعية الصارخة، فما بين فئة مسكوت عنها هي طبقة الأغنياء الذين يستغلون أجساد بائعات الهوى، إذ التناقض الطبقي تعبير عن حالة خلل في المجتمع فلم يكن للمرأة من باب الارتزاق سوى عمل غير إنساني يلقي بها في عالم الحانات لتعيش على مجالس اللهو والجنس ، فمارست الطبقات الفقيرة المنحدرة من الهامش البغاء احترافا ومهنة وهناك اللواتي مارسنه بحثا عن الحرية أو شذوذا عن قيم المجتمع وأعرافه. لقد أطل الروائي بوعي شقي وبمرآة انعكاسية لواقع المرأة في مدينة طنجة هذا الواقع السلبي الملطخ بألوان العهر والفساد، كاشفا عن سوءة المجتمع من خلال المرأة بما انها قطب الرحى في المجتمع وقلبه النابض.
* مفهوم السيرة الذاتية الروائية.
عندما نتحدث عن السيرة الذاتية فإننا نكون أمام إنتاج سردي واسع متعدد الملامح والتجليات يمتد بين الواقعي والتخيلي كقطبين أقصيين لتضم صورا سردية مختلفة تقترب من هذا القطب أو ذاك، وقد حصر " جورج ماي" هذه التجليات في ثمانية أشكال أساسية يكون حدها التخيلي أقصى الرواية وحدها الأقصى الواقعي التوثيقي فالسيرة الذاتية الخالصة هي مجموع الإنتاجات السردية التي تحضر فيها حياة الكاتب بصورة أكثر أو أقل قوة دون أن تكتسي الطابع التوثيقي الخالص، وبالتالي تصبح من قبيل السيرة الذاتية الروائية أو رواية السيرة الذاتية حيث يتداخل الواقعي والتخيلي في نوع من الانسجام والتألف، والرواية المغربية- بتراكماتها منذ البداية حتى الأن تقدم في مجملها نموذج اشتغال السير الذاتي في التخيلي مما يمنحها جمالية خاصة متميزة وقد يعود هذا الانسجام بين الواقعي والتخيلي في الرواية المغربية إلى تلك العلاقة التي تربط الذاتي بالموضوعي أو الفردي بالجماعي في المجتمع المغربي وهذا ما عبرت عنه السيرة الذاتية الروائية لمحمد شكري حيث تكشف علاقة الذات بالأخر فيصبح الأخر المكمل لها مرآة ترى فيه الذات نفسها وتحقق بواسطته وجودها وكينونتها ومن تم يكون خطاب السيرة الذاتية الروائية خطابا جماعيا وليس خطابا فرديا ذو نزعة أناوية .
*عتبات النص /العنوان.
لم تعد العتبات النصية الروائية مجرد علامات نصية بكماء خالية من التشويق والإثارة بل أصبحت خطابات أدبية غنية الدلالات، وإشارات ذكية تتبلور، من هذا المنطلق يعد العنوان نصيا يتحقق فيه نص غائب في نص حاضر ليكون العنوان وسيلة مركزية من بين العديد من وسائل التفاعل مع الكتابات الأخرى السابقة والاندراج في أفقها الإبداعي.
لعل اختيار العنوان بالنسبة للروائي الحداثي هو استراتيجية فنية لا تقل أهمية عن باقي عناصر الكتابة الروائية الأخرى مما لاشك أن وضع العنوان المناسب للرواية مسألة تخص الكاتب كما تتحكم في هذا الإجراء الفني الدقيق مجموعة من الإكراهات المجتمعية سواء سياسية أو دينية أو اجتماعية، أخلاقية فضلا عن المراعاة الجمالية لتلقي العنوان التي تعمل في النهاية على فرض شروط صوغ العنوان النهائي الذي يقترحه الروائي على الجمهور فقد يغير الروائي عنوان روايته اقتناعا منه بعدم جاذبيته وخلوه من الإثارة، انطلاقا من تأمله الشخصي في طبيعة العنوان الأصلي أو بناء على توصيات الناشر.
*قراءة دلالية لعنوان السيرة الذاتية الروائية " زمن الأخطاء"ـ
إن العنوان هو أول ما يقع عليه نظر المتلقي ويشكل عتبة المفاوضة بالقبول في الدخول إلى عالم النص أو الإعراض عنه، ويعتبر العنوان أعلى اقتصاد لغوي يفرض أعلى تلق ممكن، مما يدفع إلى استثمار منجزات التأويل، فهو أول شيفرة رمزية يلتقي بها القارئ، مما يخلق لدى القارئ أفق انتظار.
زمن الأخطاء يتكون العنوان من مركبين إسنادين زمن مسند والأخطاء مسند إليه؛ إن مفهوم الزمن مفهوم يصعب الإمساك بزمامه فهو منفلت كالزمن الذي ينسحب بساطه في غفلة منا فهو سر من أسرار هذا الكون، وفي سؤال عن معنى الزمن قال القديس أوغسطين في كتابه الاعترافات" ما هو الزمن؟ عندما يطرح على أحد هذا السؤال، فإني أعرف وعندما يطرح على فإني أنذاك لا أعرف شيئا "ـ
إن الزمن هو الساري في الكائن، والكينونة، والمكان، مرتبط بالوجود الإنساني وبالتجربة الإنسانية، فالإنسان هو الذي يفعل في الزمن ويترك أثره فيه كما أن الزمن يترك أثره في الإنسان والمكان، يفعل فعله في الديار فتصبح أطلالا وفي ذكريات الإنسان التي تتلاشى ويعتريها النسيان بفعل الزمان وفي الإنسان الذي يفعل فيه الزمن فعله ويرسم على تضاريس جسده حروف الشيخوخة والوهن ويقول الإنسان متحسرا أه من الزمان؟ لقد شغل مفهوم الزمن الفلاسفة والمفكرين ورجال الدين والأدباء والشعراء...محاولين فك شيفرة الزمن.
إن هذا الغامض (الزمن) المرتبط بالحركة، والناس نعيشه دون أن نلمسه أو نقبض عليه لا نملك سوى ساعة تنذرنا عقاربها كل حين بمضي الوقت، إنه مفهوم مجرد ومنفلت.
إن زمن محمد شكري موصوف بالأخطاء؛ الأخطاء التي يعمل الإنسان على تصحيحها وتداركها فالإنسان والخطأ واحد جبل عليه لكن معادلة العنوان هنا تشير إلى أن هذه الأخطاء هي أخطاء الزمن فهل للزمن أخطاء؟ أم هي أخطاء الإنسان التي دائما يسعى إلى التخلص منها، أم أخطاء محمد شكري؟ أخطاء ماضيه الأليم وحاضره الذي يكابد فيه العيش حالما بمستقبل مأمول فأوجد لها الروائي شماعة الزمن للتخلص من مسؤولية الأخطاء ليعلق عليه أخطائه الكثيرة وأخطاء المجتمع، وكأن محمد شكري باختياره لهذا العنوان لورايته يقدم فيها محكيا- عن الزمن هذا الزمن المليء بالأخطاء والرديء في هذا الصدد يقول بول ريكور:" على أن الإدراك الفعلي للزمن لا يمكن أن يكون إلى عبر المحكي ولاوجود للزمن خارج التجربة الإنسانية، إن الطابع المشترك للتجربة الإنسانية المميز والمتفصل والموضح من لدن فعل الحكي في جميع أشكاله، إنما هو الطابع الزمني. فكل ما نحكي يحدث في الزمن، ويستغرق زمنا ويجري زمنيا. وما يحدث في الزمن يمكن أن يحكى."[13]
وبالتالي يكون الزمن ذا وجود محكي ويصير الأدب خالقا لهذا التوافق والانسجام الذي يبحث عنه الكاتب في رواية زمن الأخطاء فقد منح للزمن وللأخطاء شكلا تعبيريا ونظمها في قوالب سردية، لتكشف بذلك الرواية عن زمن الانكسار، وزمن الخوف وانتظار الذي يأتي ولا يأتي، يحكي عن زمن المعاناة والأخطاء يحكي عن زمن العيش في الأخطاء والهروب منها ومن الماضي الأليم ماضي زمن الضياع والتشرد والسكر والبغاء محاولا بهذا كله التخلص من زمنها، كما أن هناك رغبة مكبوتة للكاتب المبدع في محاولته امتلاك حالة ارتقاء والبحث عن مدارج التحرر إلى عالم الفوق عالم الزمن الحقيقي والحب الحقيقي من خلال رهانه السردي، إن هذا الزمن هو زمن الأخطاء الذي غابت فيه ملامح وجهه الحقيقي وحل محلها زمن التفاهة وزمن البيوت العنكبوتية والدعارة والفساد وبشاعة طنجة في هذا الزمن الذي يلقي عليه الكاتب باللوم ولو بصورة رمزية كأنه يقول هذا زمن الأخطاء هذا اسم الإشارة محذوف والمشار إليه رمزيا من خلال صياغة العنوان وكأنه يلعن زمن الرداءة والعهر في طنجة " إنه العيش في زمن الأخطاء."[14]
* مرايا النساء : المرأة في عالم السيرة الذاتية الروائية "زمن الأخطاء ".
يقدم السارد في كل فصل من فصول روايته صورة عن شخصية مازالت حاضرة بذاكرته وعايشها عن قرب في فضاء طنجة، أو العرائش وتطوان وهي شخصيات نسائية تختلف في جوانب وتلتقي في أخرى وعندما نتأملها نجدها تعكس صورا للحياة اليومية العامة.
يتوزع النص السردي على شذرات لكل عنوانه الخاص للحديث عن شخصية من الشخصيات دون أن يكون لها علاقة مع الشخصيات الأخرى، ويبقى الدافع الذاتي منذ البداية هو الذي يعلن سيرة ذاتية روائية فهو خيط رابط بين كل الفصول جميعها باعتبار شخصيات الرواية من محيطه الاجتماعي ومعارفه وأصدقائه وفي دراستنا هذه سنحاول الكشف عن الكيفية التي رسم بها الكاتب محمد شكري شخصيات محكيه الذاتي والطريقة التي جسد بها صورة المرأة المغربية بكل وضعياتها الاجتماعية وتجلياتها ( صورة الأم، صورة المرأة الصديقة، المرأة المومس، المرأة المطلقة، المرأة المريضة و المعنفة ،المرأة الأجنبية )
*صورة المرأة/ الأم.
ضمن جملة من التداعيات السردية التي يزخر بها النص السير ذاتي الروائي وتمحورها حول تجربة البطل مم يشكل باعثا على استحضار الأم والدور الذي لعبته في نموه ولو بشكل خفي غير معلن عنه بطريقة واضحة إلا من خلال عبارات وجمل نستشف منها حبها لابنها الروائي محمد شكري " تذكرت أن أمي هي أيضا امرأة بائسة تصلي من أجلي وتتضرع إلى الله- أن يحفظني من كل مكروه."[15]صورة الأم تقدم أقرب إلى القديسات فهي امرأة صالحة تحب ولدها" اشترت لي أمي سترة وقميصين وبناطلين لبدء الدراسة في مدرسة المعلمين."[16]
مما يكشف عناية الأم بابنها، ورعايتها له، تأتي الأم في رواية زمن الأخطاء بصورة معبرة عن المرأة المقهورة والمغلوبة على أمرها، فهي تلك المرأة المعنفة، التي تعاني من تسلط الزوج وتعنيفه لها حيث تنتفي في هذه العلاقة الزوجية أي صورة من صور المودة والتراحم بين الزوجين ما يؤشر على علاقة متوترة تكون فيها المرأة الأم وأبناءها ضحية لعنف الزوج وقمعه المستمر لهم وتسلطه " إذا احتجت أمي يضربها ويلعنها كعادته القديمة معها ومعنا."[17] فهو يقمع حتى حقها في الاحتجاج أو الرفض ويستمر تعنيف المرأة الأم من طرف زوج عنيف " يضرب أمنا حتى يدميها أو يزرق لها احدى عينها أو هما معا."[18]
بعد كل هذا العنف فهذه المرأة هي من تعول أسرتها، تخرج مضطرة لبيع الملابس في سوق التوت من أجل لقمة العيش، التي تقاعس الزوج عنها دون أن يكلف نفسه عناء العمل من أجل كسبها مكتفيا بالعنف مع أسرته والحكايا الكاذبة مع المتقاعدين والمتقاعسين مثله مما يكشف عن سيادة التسلط الذكوري " سأنتظر حتى تذهب أمي لتبيع الملابس المستعملة في باب التوت، وأبي إلى الفدان وفي ذهنه حكايات جديدة ملفقة يحيكها عن شجاعته للمتقاعدين أو الهاربين مثله من حرب فرانكو، كلهم لهم حكاياتهم الكاذبة."[19]
إن المرأة/الأم في هذه السيرة الروائية ، تتوالى عليها الكثير من المعاناة فهي امرأة عليلة رسم المرض تضاريس الوهن والضعف إذ تعاني من مرض السل وتتلقى العلاج في مستشفى بتطوان:" أربعة أسرة، مريضة واحدة طريحة الفراش قرب سرير أمي...بست رأس أمي ثم جلست على مصطبة صغيرة مستديرة بيضاء قرب سريريها."[20] ثم يستطرد السارد في وصفها " البائسة ذات النظرات الحزينة نظرتها مبهمة فيها حزن دائم."[21] لقد كشف لنا هذا المقطع السردي عن زيارة الابن محمد شكري (السارد) لأمه في المستشفى، لكن زوجها لم يقم بزيارتها " ذكرت لي أنهم لا يسمحون للأطفال هنا للأطفال أن يعودوا ذويهم لم تكن تعودها سوى ارحيمو التي كبرت، يعودها أحيانا، جارنا عبد الحميد صحبة زوجته، أما هو فلم يعدها قط."[22]إن هو "هو " الضمير الغائب الذي يمثل غيابا فعليا للزوج الذي تخلف عن زيارة زوجته المريضة بينما زارتها ارحيمو والجار وزوجته الشيء الذي يكشف عن التفكك الأسري الذي تعيشه الأسرة من خلال قطبيها المهمين الأب والأم مما يدفعنا للقول بأن روابط المحبة والود والاحترام تنتفي في هذه الأسرة المتشظية.
يمتد بنا خيط الوصف لصورة المرأة الأم من المعنفة، والبائسة المريضة/الفقيرة/ التي تعاني من قهر الزوج لها وتسلطه بالإضافة، إلى أنها تتوشح بسواد الصمت فالسارد لا يقدم لها خيط الحديث لكي تحكي فهو من يضطلع بدور الحكي بحيث نستشف صوتها الغائب والمغيب في مجتمع الرواية وفي واقعها فليس لديها حق التعبير أو الاحتجاج أو الرفض " دمعت عيناها وأنا أودعها لم تلح علي في تفقد أسرتنا بين الفترة وأخرى أكيد أنها علمت برسوبي، استبطنت علمها في نظرتها إلي، لكنها لم تقل شيئا."[23]
لقد ظلت صورة المرأة/ الأم تكتنف الصمت والمعاناة والمرض والبؤس إلى أن استسلمت للموت بعدما أضعفتها شيخوختها المهمومة " إلى أن ماتت بنزيف لم يتوقف خلال أسبوعين."[24]
*صورة المرأة/ الصديقة.
فطيمة سيدة البار ولدت في العرائش ويمتد أصل أبويها إلى " اثنين سيدي اليماني"[25] أمها ماتت وأبوها تزوج، فطيمة أم لطفلة اسمها سلوى تبلغ من العمر سبع سنوات، يقدم لنا السارد صورتها بكل أريحية واصفا إياها بالمرأة ذات الابتسامة المشرقة و الطيبة على لسان النادل: " تعيش على هواها مع الاسبانيين تتحاشى العشرة مع المغاربة، لكنها امرأة طيبة."[26] يتدارك الصوت صفة الطيبوية بحرف الاستدراك " لكن" مما يؤشر على أن هناك حاجز ما جعل الطيبوية تأتي مستدركة فهي واحدة من بائعات الهوى : " إنه يوم الأحد وجدتها تتجمل لتبدأ يومها الاحتفالي في الحانات."[27]
لقد تواشجت علاقة صداقة وألفة بين السارد وفطيمة بائعة الهوى؛ حيث بدأت بوادرها في مقهى سنترال " في مشرب المقهى كانت هناك امرأة تشرب مع جماعة من الاسبانيين تضحك كثيرا يغازلها ثلاثة، بين لحظة وأخرى تنظر إلى ابتسامتها ، مشرقة بادلتها ابتسامتها الوديعة، ماذا يخامرها فكرت أن للنساء نزواتهن وضع لنا النادل القهوتين وقال القهوتان على حساب السيدة فطيمة، قد لا تكون نزوة ربما احسان بنا."[28] من هنا تكتمل بوادر الصداقة التي بدأت، فقد قامت فطيمة بدعوة السارد للعشاء" أدعوك للعشاء معي في بيتي، لم تجيء إلى مقهى سنترال منذ أيام، ترقبك هناك وسألت عنك النادل..."[29] استقبل السارد دعوتها ومن خلالها سيكشف لنا عن معالم صورة المرأة الصديقة المحتشمة في حركاتها والرقيقة في صوتها لا تبدي أي غنج أو إغراء مما يظهر أن دعوتها له لم تكن بقصد نزوة جنسية عابرة كما ظن السارد أول الأمر بل كانت جلسة بوح ومكاشفة مما سيجعلها تطلب منه مساعدة ابنتها سلوى لمراجعة دروسها ؛هذا الطلب الذي يأتي باعتباره فعل تعويض لابنتها عن الأب الغائب والذي سكت عنه السارد فنحن لانعرف هل هي امرأة مطلقة أم أرملة أم عازبة "هذا السيد هو الذي سيعلمك عندما تعودين من المدرسة."[30] تتضح إذن؛ ملامح الصداقة مع المرأة من دون أن تكون هناك شهوة دفينة فالسارد كذلك لم يبد أي رغبة تجاهها مما وطد أواصر هذه الصداقة مساعدتها المادية له دائما " دسست لي عشرون بسيطة في يدي مشرقة الوجه، لم أرفض لقد عودتني."[31] نلمح هنا إذن؛ صورة فطيمة تأتي من موقع الصديقة التي تقدم له الخدمات المتوالية دون أن تتواطؤ معه في أي نزوة جنسية رغم ممارستها (للدعارة) ومجالسها الخاصة في الليل مع عشاق الجسد والخمر إذ نقارب هنا بعدا إنسانيا في علاقة السارد/الرجل بفطيمة المرأة/بائعة الهوى بعيدا عن كل الأفكار النمطية والقدحية التي تحول دون نمو مثل هذه العلاقات الإنسانية.
*صورة المرأة/ المومس.
كنزة " مومس" تنحدر من مدينة طنجة شابة جميلة وفاتنة ذات جسد رشيق، عنيدة الطبع ومشاكسة ومتكبرة " آتية من طريق البحرية، مصبوبة في قميص وسروال أبيضين شفافين لصيقين بجسدها الرشيق، شابة جميلة، شقراء في مشيتها غنج أنفها صغير أفطس قليلا وشعرها طويل أملس ..."[32] يستطرد السارد في وصف مفاتن جسدها معجبا بجمالها هذا الجسد الفاتن الذي أغراه ودغدغ عواطفه جعله يتبع خطاها حتى عرف أنها مومس دخلت إلى دار الدعارة " دار لالة الغالية" فأدرك أنها واحدة من اللواتي يتاجرن بأجسادهن الجميلة " دخلت دار أزالت شكي، إنها واحدة منهن"[33]
يقدم السارد صورة مرئية ونفسية من خلال وصفه هذا، فقد توقفت لعبة المطاردة في الشوارع إلى دخول السارد لدار لالة الغالية لكي يقضي الليلة مع التي أشعلت الفتيل في قلبه غير أن فاتنته استعصت عليه برفضها لمضاجعته الشيء الذي جعل السارد يتشبت بها ويستمر في عنادها وطلبها " هيجني السكر الحزين والعناد فعدت إلى دار القوادة شريوطة قالت كنزة ما زالت في صحبة الرجال ...إن التي استعصت أعطيتها مائة بسيطة ستشاورها قلت لها مدبرة أعطيها ما شاءت بانت في البهو مختالة في خطوها مثل نمرة شبعت من افتراسها تباهت نظراتها ثم اختفت في كبرياء المعتصمات ."[34]
نلمس كيف أن كنزة كان لها حق الرفض، رفضت السارد الذي حاول غير ما مر مستعدا أن يعطي ضعف الثمن لقد شغلت باله وقلبه بعنادها وترفعها عنه "إن كنزة أيضا عنيدة ربما تكون قد أيقظت فيها أشياء تؤلمها."[35] بالإضافة إلى العناد هناك الألم الأشياء التي تؤلم المرأة/المموس انكسارها وألمها الذي تحاول جاهدة إخفائه فمن ليلة إلى أخرى وكأس وبين رجل وأخر تزداد المعاناة حدة في عالم الليل والبغاء، "تعمل كنزة في مرقص شرقي راقصة مبتدئة، مع ذلك يسمونها الراقصة العفريتة، في ليلة عادت سكرانة..."[36] بدأت تهذي هذيان الليل والسكر معلنة عظمتها " أنا امرأة عظيمة. أنت لا تعرفني."[37] لقد حملها السارد إلى غرفتها في فندق لا بالتا وهي تجتر كلمات عن عظمتها الواهنة معبرة عن مكنوناتها الأنثوية الدفينة " أحاطت ذراعها عنقي وصعدنا الدرج هاذيه بعظمتها ومشقتي أعظم منها."[38]
يقدم السارد صورة مصقولة عن زيف ليل الحانات؛ الزيف والوهم الذي تعيشه بائعة الهوى كنزة وعن جمالها السائب الذي تتقاذفه أنياب الليل والأنخاب وعظمتها الواهية
" أتأمل غيبوبتها وتنفسها الواهن، إن الأن لها جمال امرأة ميتة مشتهاة في زمن بابلي أو اغريقي لم يعد فيها ما يغري فقدت كل كبرياء صحوها وغزلها، وتباهيها لقد تحررت من كل خداع كم كل زيف بشري..."[39] فجأة تحول هذا الجسد الذي المفعم بالحياة والرشاقة إلى جسد جثة امرأة ميتة بعدما كانت تغري السارد بجمالها تبشع هذا الجسد الزائف المتخلي عن كل إغراءه وكل كبرياء " دخنت وفكرت في العلاقات البشرية القذرة. حلمت بصف طويل من الرجال عراة يتناوبون على مضاجعة كنزة وهي تقول لهم تعالوا لي كلكم، زمني هو زمن كل النساء."[40]إن المسارات السردية كشفت لنا عن وهم وزيف حياة المومس والمظاهر الخادعة فهي لا تملك سوى جسد واهن سرعان ما يبين عن ضعفه وسقوطه، وفي لحظة منسكبة من قارورة الحلم وزمن الليل الذي يجعل من جسد المرأة وليمته ويسقى من لهب الرذيلة والعهر. وكدليل موضوعي على صور هذه الحالات الأنثوية من النساء اللواتي تمارسن الدعارة فقد رسم السارد صورة ربيعة " المومس" هذه الشابة التي هاجرت من مدينتها مكناس الوافدة على طنجة، التي كانت تعيش حياة بائسة مع زوجة ابيها بعدما ماتت أمها، تحكي حكايتها للسارد دامعة العينين " حكت لي ربيعة دامعة العينين عن موت أمها. أبوها تزوج بعد موت أمها أقل من شهر، لم تكن زوجة أبيها تحبها وتكره أن تربي أخاها الذي اخرجوه من بطن أمها بالقيصرية في ليلة ذهبت زوجة أبيها إلى عرس غلب النوم ربيعة في فراشها، عاد أبوها سكران ونام معها من غير قصد حكم عليها أن تهجر مكناس أو يقتلها."[41]يتبين لنا كيف قذف هذا الأب السكير بابنته إلى لهيب ألسن الشارع حاكما عليها بالطرد القسري ملقيا عليها مسؤولية ما وقع وكتكفير عن جريمته كان الطرد لها من البيت، جاعلا من ابنته دمية لا تنطق مطوقة بالصمت وتتحمل لوحدها عبء ما حدث فتصبح الضحية جلادا ما يقدم لنا صورة موضوعية عن أنموذج امرأة مقهورة مأمورة بالصمت في مجتمع ذكوري أدمن قمع المرأة وتلجيم فمها بالصمت، كان خروج ربيعة إلى عالم البغاء خروجا قسريا فرضته شروط أب قاس متسلط سكير.
سعيدة اسم ينطق بالسعادة والأمل، غير أنها شقية فتاة شابة في مقتبل العمر جاءت من القرية إلى مدينة العرائش لتعيش عالم الليل والحانات، مات أبوها وهي طفلة صغيرة تكفلت عمتها برعايتها، لقد عاشت فترة في طنجة " سحقها فيها صعاليك الليل " [42] (سعيدة مومس )" حضورها حميمي قليلة الكلام وكما جاء على لسان السارد " فتاة لم تخلق أبدا للدعارة."[43] غير أن صروف الدهر زجت بها إلى ذاك العالم النتن ليفترس أنوثتها صعاليك الليل ، الملاحظ أن أسماء بائعات الهوى أسماء مشرقة (سعيدة، كنزة، ربيعة...) للمحافظة على الجانب الإنساني في الشخصية وليزرع السارد نوعا من الأمل في حياتهن ، إن ما تعانيه النساء يمثل صورة من صور العذاب والحرمان والقسوة والسلبية والتهميش التي تعيشها الكثيرات من النساء بصور متشابهة ومتفاوتة في المعاناة، إنها معيشة تبقر المرأة في بؤس وشقاء الليالي التي تلتهم جسدها وتلقي بها إلى المجهول إن صورة ( ربيعة ، وكنزة ، وسعيدة ) ماهي إلا عينات من نساء أخريات يتجرعن كأس المعاناة في ليل طنجة.
*صورة المرأة/المطلقة.
حبيبة الجارة وصديقة السارد التي يبيت عندها حينما يشتد صراعه مع والده في كوخ الشؤم واللعنات، أم حبيبة وأم محمد شكري صديقتان " كان هذا التكاشف الحميم استمرارا لصداقة أمي مع حبيبة." حبيبة شابة تبلغ من العمر الخامسة والعشرين لم تعش قط حياة جميلة، لحظات فرح قد تسرقها. حظها سيء منذ باكر عمرها."[44]
إنها حبيبة المرأة التعيسة التي لم تفرح يوما؛ زوجها والدها قهرا من كهل يتاجر في الماشية وهي لم تتعد بعد السابعة عشرة من عمرها طلقها هذا الرجل بعد مضي سنة وأشهر بسبب عدم إنجابها أصيبت بعد ذلك بنوبة عصبية أدخلت إثرها لمستشفى الأمراض العقلية " لأنها تكسر أشياء المنزل، وتمزق ثيابها وأي ثوب تجده أمامها في المستشفى ترقص بهوس صارخة حتى يغمى عليها أو يحقنونها."[45] يتجلى في هذا المقطع السردي بؤس المرأة وشقائها خرجت من المستشفى بعدما تحسن وضعها " أشهر خرجت لتعيش حياتها العادية في عطلة صيف تصاحبت مع شاب في شاطئ مرتيل يصطاف مع أسرته، تزوجها وذهبت لتعيش معه في الرباط."[46] في هذا الزواج تبدأ سلسلة معاناة وصدمة أخرى لحبيبة التي أنجبت أربعة أطفال، غير أن زوجها كان يعنفها ويضربها بقسوة، "يقسو عليها بالضرب حتى الادماء فهجرته تاركة له الأطفال."[47]
طلقت حبيبة للمرة الثانية ورحلت إلى سبتة تحمل معها جنونها ووجعها وصدمتها جالت في الشوارع رقصا وهوسا، سكرانة تعبث في الأحياء الشعبية سموها الحمقاء الجميلة لم يكن لها مأوى غير استضافة بعض المتشردين لها من هنا، نلمس عن كثب معاناة حبيبة المرأة/المطلقة التي أصيبت بالجنون جراء ما عانته من زواجها الأول والثاني لتسلم نفسها لنوبات الجنون والمرض وحياة التشرد في الشوارع، " تفاقمت عربدتها فرحلوها إلى تطوان لتدخل مستشفى الأمراض العصبية لكي تفجر طقوس رقصها حتى يغمى عليها وتحقن كالعادة." [48]
لقد خرجت حبيبة من المستشفى لتعيد اكتشاف ذاتها من جديد أو لعيش حياة هادئة بعيدا عن كل جنون أو مرض حتى تستمتع بحياتها " كانت تتدبر أمرها فتشتري أبهى الملابس تتصابى بها في شوارع المدينة."[49] " أكثر من مرة رأيتها في سيارة أو ماشية صحبة من لا أدري في شوارع النزهة الجديدة."[50]حبيبة تجوب الشوارع بكل زينتها متأنقة بحثا عن بؤر تعويض وخلاص من التجارب الفاشلة التي عاشتها، غير أن الواقع أكثر قساوة " غابت ولم تظهر إلا في اليوم الثالث أثار كدمة زرقاء على عينيها اليسرى. ضربة قوية هناك من يستعبدها."[51] لم تتخلص بعد هذه المرأة من العنف المطارد لها عنف الرجل وقهره وفي بحثها الشقي عن ذاتها لتجلو ضباب الكأبة الذي طالما لاحقها بحثا عن رجل يحبها " لا شك أن حبيبة تعيش قصة غرامية شقية."[52]ويقول السارد في موضع أخر " من الأفضل لها ألا تحتضن على بيضة حب من جديد حتى لا تعود إلى رقصها الجنوني..."[53]
كشف لنا السارد عن صورة المرأة المطلقة حبيبة وما عانته من عذاب وقهر وحزن غير أن أملها في البحث لم ينقطع ؛ أمل المرأة في حياة هادئة تنسيها ما عاشته وعن حب يعوض ذاتها عن كل الخسارات ، غير أن السارد يعتبر هذا البحث أو هذا الحلم ميؤوسا منه وكأن سلوكات الرجال كلها تتشابه وسيعدون إنتاج المعاناة والعنف لحبيبة " تزوجت حبيبة للمرة الثالثة بعد ما ظلت سنوات وهي تخيط الشوارع وفي الشهر السابع من هذا الزواج ماتت بالكوليرا وزوجها ينتظر منها طفلها الأول."[54]ها هو قدر حبيبة ظل شقيا فحتى بعدما وجدت زوجا وتخلصت من القهر النفسي والجنون والعنف، لكن شبح الموت طاردها وهي حامل بطفل .
*صورة المرأة/ المريضة.
حينما أصيب محمد شكري بنوبة عصبية حادة نقل إلى مستشفى " مايروكا " في تطوان مستشفى- الاضطرابات النفسية والعصبية، من داخل هذا المستشفى رصد لنا شقاء الإنسانية الخابىء في المرضى كما أنه رصد لنا نوعا من الدعارة مع بعض المريضات " لا يخلو المستشفى من عاهرة محترفة أو أكثر" مبينا لنا تفشي العهر والفساد حتى في المستشفيات التي هي مكان للعلاج والشفاء، لتفقد بذلك الأماكن حرمتها ويصبح العهر والفساد متفشيا في الشوارع، البيوت، الحانات ،حيث لا فرق بين مستشفى أو ماخور.
يسلط السارد عينه الاقطة ليقتنص لنا صورة المرأة المريضة (المجنونة) التي تمارس الدعارة في المستشفى رغم شقائها بمرضها وتوترها العصبي والنفسي "إن شامة أقدم منه : خمسة عشرة سنة . حبلت في المستشفى ثلاث مرات. لا أحد يعرف مع من..."[55] تستمر هذه النوعية من الدعارة مع مريضات أخريات مثل البتول إحدى المريضات التي يضاجعها ممرض الدوام " ممرض الدوام أيضا يضاجعها."[56] تعاني من عصاب العقم تسكر وتدخن لتسكين الألم مريضة أخرى " تغري بجمالها وغنجها... لم يسعفها الانتحار ابتلعت كمية من الأقراص المنومة."[57]من داخل المستشفى كشف لنا السارد عالمه السري وملامح البغاء والعهر التي تستشري فيه ، حتى يتضح لنا كيف يتم استغلال جسد المرأة حتى في لحظة مرضها وانكسارها واحباطها ففي مكان العلاج والسكينة والتخفيف من الألم إذ بنا نلمس الشقاء الإنساني والألم فهناك اللواتي أقبلن على الانتحار بعدما وصلن إلى أقسى درجات اليأس وهناك اللواتي يدخن ويسكرن ويمارسن الدعارة تصريفا ونسيانا للمعاناة أومن أجل دراهم للتي لا يزورها أحد " حتى نوع من الدعارة ممكن مع بعض المريضات، بالدراهم أو بما تحتاجه من لا تكاد يعودها أحد."[58] حتى هذه المرأة المريضة لم يزهد فيها الرجال مستغلين أنوثتها بكل مذلة وقذارة علاوة ، على أوضاع المستشفى التي تبرز حالة التسيب والإهمال ، وعدم العناية والرعاية ومراقبة المريضات فكل واحدة تفعل ما يحلو لها دون مراقبة ، بل حتى المسؤولين عن الدوام لم يستثنيهم السارد في إشارة مهمة منه حينما وجد ممرض الدوام يضاجع البتول المريضة مما يبين بشكل واضح تواطؤ المسؤولين والفساد العارم الذي اجتاح المستشفى ودنس حرمة المكان فكيف يتحول الممرض لذئب يفترس جسد وأنوثته المريضات وما البتول إلا نموذج من أخريات استطاع السارد من خلالها فضح فساد مؤسسة الصحة ومن يشتغلون بها .
*صورة المرأة/ الأجنبية.
بما أن طنجة كانت فضاء دوليا، ومستعمرة من مستعمرات اسبانية هذه الأخيرة التي تركت فيها أثرها بشكل كبير؛ فقد وفد على طنجة للعيش فيها الكثيرون ومنهم الإسبان الباحثون عن مدينة الحلم والحرية، وفي رواية زمن الأخطاء استعرض السارد صورة المرأة الاسبانية التي كان يلتقي بها في الحانات والمقاهي والأوتيلات وبعض النساء في ماخور " مدام سيمون" إن المرأة الاسبانية ليست أكثر حظا من المرأة المغربية فهن كذلك نساء مهمشات يعانين من الإحباط ويعشن الذل والانكسار خارج وطنهن يدخن ويشربن بكل حرية في الحانات لتسكين الألم والمعاناة ويمارسن الدعارة .
سارة: قدمت من العرائش إلى طنجة أمها يهودية تزوجها اسباني " تملك سارة فندق (أركاديا) تقضي معظم أوقاتها تقرأ"[59] لسارة عشيق وحيد اسمه بوتامي كما أن إغراءها وشبقها يغري شبان المدينة الفقراء وبعض المفتونين بالأجنبيات."[60] وبعضهم افتتانا بالأجنبيات، ولو كن هرمات مثل سارة"[61] إن سارة تمارس شهواتها بكل حرية تقضي معظم وقتها في القراءة؛ مثل هذه الإشارات السردية مفتقدة في صورة المرأة المغربية التي لا يأتي ذكر السارد أنها متعلمة أو تقرأ.
باتريسيا: امرأة لها ابنة اسمها أناستاسيا، تدخن وتشرب محبطة ككل النساء اللواتي مرت معنا صورهن " يجتمع في باتريسيا الفرح والحزن، والشكوى والتذمر." [62]
يصفها السارد على أنها شاعرة فاشلة. يبدو لنا أن صورة لمرأة الاسبانية كانت تفرغ معاناتها واحباطاتها في الكتابة الشيء المفتقد في صور المرأة المغربية التي سرد الكاتب قصصهن.
سالية:
يقدم لنا السارد صورة سالية التي جاءت إلى طنجة لكي تختبر أنوثتها " تريد أن تقيم طنجة الحلم، طنجة العارية، الرنانة..."[63] ناسية أن طنجة تسحق من لا يعرف كيف يشرب خمرها المسحور إن سالية امرأة محبطة ومهزومة في مدينة طنجة تقضي معظم وقتها في الشراب والحشيش بعدما " تركت جسدها يغتصبه باكرا المراهقون، والحشاشون والسكارى ..."[64]كانت فريسة أنثوية قابلة لانقضاض عليها ذكوريا، " تتقاذف سالية الليالي بين فندق فاخر أو بائس حسب حظها أو سكرها، وجيب الزبون، لا يهم من يكون الليل والسكر يخفيان الويل، ومن منزل إلى منزل حتى لم يعد ثمن لسهرتها سوى تسكين هوسها وقلقها."[65] لم تكن تجارب سالية الجنسية سوى تكريس للضياع الذي يستبطن ذاتها جراء ما عانته، وجسدها الذي تركته يغتصب باكرا، فهو تكريس أخر لما عاشته من حياة محبطة ضائعة بين كؤوس الليل والفنادق مما جعلها تبحث عن المتعة والاستقرار المفتقد بعدما خانها شبابها، وضيعها زمن الليل والجنس في طنجة.
في هذا العالم الروائي ينكشف انكسار المرأة حيث تعيش المرأة صراعا متواصلا مع نفسها والحياة ومتاهاتها وبالتالي، تتوحد صورة المرأة في هذا العالم الروائي الذي تتعرى فيه الأزمات المتنوعة وينجلي واقعا سوداويا تسوده رؤية تشاؤمية وتخيم عليه إحباطات النساء حيث تتباين صور النساء فتبدو شخصياتهم متباعدة في حياتها ومنفصلة عن بعضها ولا تربطها أية علاقة، لكن تجربةالمعاناة والليل والبغاء والسكر تجمعهم رغم اختلاف الهويات والوضعيات الاجتماعية عازبة كانت أم متزوجة أم مطلقة كلهن يرتدن الحانات والمواخير باستثناء أم السارد التي قدمت باعتبارها امرأة صالحة. إن هذا العالم المدنس كشف بصورة جلية عن نفسيات متأزمة وهويات مجروحة تخيم عليها السوداوية كما تخيم على فضاءها الطنجوي الذي فقد الكثير من مميزاته وهويته.
*الخاتمة.
إن الرحلة التي قطعناها في هذا البحث عن محكي الذات في مرايا النساء بالمنجز الإبداعي لمحمد شكري حاولنا من خلالها النبش في هذه السيرة الذاتية الروائية التي توحدت فيها تجربة الكاتب الذاتية بالتجربة الجماعية ليكون معبرا عن حال طبقته التي تعيش الفقر والقهر الاجتماعي وكل ألوان المعاناة ومن تم استدعاء شخصيات من النساء أزاحتهن الحياة إلى الهامش يعشن في بيوت الدعارة وفي الشوارع الخلفية، والحانات، حيث كان الكاتب صاحب وعي شقي يشاكس ويستفز الواقع الاجتماعي المتناقض والرديء ويسخر من زمنه زمن الأخطاء التي يعيشها الواقع الطنجوي خصوصا والمغربي عموما؛ إذ كان هو شاهدا على الحياة التي مارسوها وكان شريكا معهم، إن هذه الشهادة على الوضع الاجتماعي المغربي مشوبة بالسلبية إلى أبعد مدى؛ سلبية المجتمع وسلبية المرأة فقد أماط الحجاب عن المسكوت عنه؛ عن الحياة المتمردة على النواميس الاجتماعية التي تبلغ حد الشذوذ الأخلاقي.
تمرد " محمد شكري" على كل شيء واختار له ظلا مخالفا لظل الأخرين وبين زمن الأخطاء بحث عن شخوصه التي حينما تصادق معها حملته بأرزاء مجتمعية لم يعرف الفكاك منها، فالرواية تنوء بحملها الثقيل بالأخطاء الإنسانية التي لا يستطيع الإنسان الانفلات منها، إن الروائي محمد شكري اختط لنفسه أن يكتب قصة حياته ، فلم تكن هذه الخطوة في بداية انطلاقها سوى حلم ظل يراوده ليجسد بالكتابة ذاتيتيه المنشطرة المتأزمة التي عانت الكثير وعبرها ذات المجتمع المغربي الذي يعيش التشظي والتمزق، فلم تكن المرأة في الرواية بصورها المتعددة سوى وعاء تسكنه اختلاجات نفسية مضطربة واختلالات اجتماعية متعددة، ليعصرها الكاتب كتابة مرة، وهو يسير في شوارع طنجة وليلها المثقل بالهموم باحثا عن أمل
وعن امرأة مثالية أضاعت طريقها ولم تكن في مدينة طنجة، امرأة مثالية تخيط له جرحه الغائر الذي أزمته المدينة الحديثة بتناقضاتها وأزماتهاـ، وبين نساء كثيرات كشفت عنهن
الرواية، ظل وجه تلك المرأة المثالية غائبا، تلك التي لم ترافقه سوى في أحلامه وخياله؛ امرأة أسطورية نورانية ظلت حلما هاربا منه.
إن الشيء الذي ينتصر في النهاية هو البوح؛ بوح لما يعتري الذات الإنسانية من معاناة وأزمات جراء تفاعلها مع الواقع وتناقضاته، هكذا يصير التغيير تغييرا بالكتابة نحو خلق تصور مغاير للواقع في سعيها إلى لم شتاته وتجاوزه.
المراجع.
أمال، قرامي (2011) الجسد الأنثوي بين ثنائية الحب والكره، قراءة في مخاوف الرجال اللغة والجسد والمتخيل، منشورات مختبر اللغة والمجتمع .
إبراهيم، محمود (2013) الجسد البغيض للمرأة، ط 1، دار الحوار للنشر والتوزيع.
بشوشة، جمعة (2011) التجريب وارتحالات السرد الروائي المغاربي، ط 1، المغاربية للنشر.
زينب، جمعة (2005) صورة المرأة في الرواية، قراءة جديدة ف رواية أملى نصر الله، ط 1، الدار المغربية للعلوم.
سمر، المقرن (2008) رواية نساء المنكر، ط 3، بيروت: دار الساقي.
سعيد، يقطين (2010) قضايا الرواية العربية الجديدة، الوجود والحدود، رؤية للنشر والتوزيع.
طه، ودادي (1980) صورة المرأة في الرواية المعاصرة، ط2، القاهرة: دار المعارف.
محمد، شكري (1995) زمن الأخطاء، سيرة ذاتية روائية، ط 3، مطبعة النجاح الجديدة.
محمد، شكري (2008) سيرة روائية من أجل الخبز وحده، الأعمال الكاملة، الخبز الحافي، زمن الأخطاء، وجوه، ط 1، المركز الثقافي.
محمد، برادة (1996) أسئلة الروايةـ أسئلة النقد حوار مستحيل، ط 1، منشورات الرابطة.
[1] بشوشة بن جمعة، التجريب وارتحالات السرد الروائي المغاربي,(ط 1؛ المغاربية للنشر،2003)، ص 25. [2] محمد برادة، أسئلة النقد حوار مستحيل، (ط 1؛ منشورات الرابطة،1996)، ص 38. [3] طه وادي، صورة المرأة في الرواية المعاصرة. (ط 2؛ القاهرة: دار المعارف،1980)، ص 9. [4] المرجع السابق نفس الصفحة. [5] المرجع نفسه، ص 121. [6] إحسان عبد القدوس، أنا حرة. (ط 1؛ دار الهلال،1954)، ص 176. [7] جورج لوكاتش، نظرية الرواية ترجمة الحسين سحبان. (ط1؛ الرباط: منشورات التل،1988)، ص8. [8] محمد شكري، زمن الأخطاء. ( ط3؛ 1995)، ص120. [9] المرجع نفسه، ص62. [10] المرجع نفسه، ص71. [11] المرجع نفسه، ص64. [12] المرجع نفسه، ص135. [13] عبد الله بريمي، أنطولوجيا العمل الفني ودلالاته تأملات في لوحات تشكيلية.(مجلة الرافد، العدد 183، 2012)، ص103. [14] محمد شكري، زمن الأخطاء. (ط3؛ 1995)، ص166. [15] المصدر نفسه، ص 25. [16]المصدر نفسه، ص 129. [17] المصدر نفسه، ص129. [18] المصدر نفسه، ص 139. [19] المصدر نفسه، ص 139. [20] المصدر نفسه، ص 139. [21] المصدر نفسه، ص 101. [22] المصدر نفسه، ص122. [23] المصدر نفسه، ص 152. [24] المصدر نفسه، ص 241. [25] المصدر نفسه، ص 77. [26] المصدر نفسه، ص 71. [27] المصدر نفسه، ص 80. [28] المصدر نفسه، ص 71. [29] المصدر نفسه، ص76. [30] المصدر نفسه، ص77. [31] المصدر نفسه، ص 80. [32] المصدر نفسه، ص 59. [33] المصدر نفسه، ص 59. [34] المصدر نفسه، ص 60. [35] المصدر نفسه، ص 63. [36] المصدر نفسه، ص 64. [37] المصدر نفسه، ص 65. [38] المصدر نفسه، ص 65. [39] المصدر نفسه، ص 65. [40] المصدر نفسه، ص 65. [41] المصدر نفسه، ص66. [42]المصدر نفسه، ص 72. [43]المصدر نفسه، ص 134و135. [44] المصدر نفسه، ص121. [45] المصدر نفسه، ص 121. [46] المصدر نفسه، ص 121. [47] المصدر نسفه، ص 121. [48] المصدر نفسه، ص 121. [49] المصدر نفسه، ص122. [50] المصدر نفسه، ص 122. [51] المصدر نفسه، ص 132. [52] المصدر نفسه، ص 133. [53] المصدر نفسه، ص 133. [54] المصدر نفسه، ص133. [55] المصدر نفسه، ص 176. [56] المصدر نفسه، ص 180. [57] المصدر نفسه، ص 180. [58] المصدر نفسه، ص178. [59] المصدر نفسه، ص183. [60] المصدر نفسه، ص187. [61] المصدر نفسه، ص188. [62] المصدر نفسه، ص213. [63] المصدر نفسه، ص245. [64] المصدر نفسه، ص 246. [65] المصدر نفسه، ص 248.